نحن وأوربا - ج 1 - الخاتمة
 
 


خاتمـة

 

لقد ورث العرب والروم تركة العلاقة بين الشرق والغرب (أوروبا).  التي طالما اتسمت بالاختلاف.  الذي كثيراً ما يتطور الى الاقتتال، والسعي الى الاحتلال، وإبادة الآخر.  فمنذ فجر التاريخ كانت هذه هي القاعدة.  فمن الاحتكاكات الموغلة في القدم في آسيا الصغرى الى زمننا هذا. 

وعندما نتكلم عن الشرق فإننا نقصد إقليماً واحداً قلما كان متجانساً، وهوشرق المتوسط والجزيرة العربية ومابين النهرين وشمال إفريقيا وآسيا الصغرى.  وهذا الشرق من الناحية الجغرافية البحتة، يقع بعض أجزائه الى الغرب من بريطانيا.  أما أوروبا، فإنها لا تعاني من مشكلة تجانس جغرافي كما يعاني " الشرق ".  ولكنها لم تحقق قواسم مشتركة بين شعوبها إلا بعد انتشار المسيحية، وهيمنة اللغة اللاتينية كلغة تفاهم مشتركة.  فالشعوب الأوروبية تنحدر من أصول شتى.  منها آسيوية رحلت الى أوروبا بعد ميلاد السيد المسيح بزمن.  مثل الآفار والبلغار والهون.  كما تتكلم لغات متعددة تنتمي الى عائلات لغوية لا تربطها ببعض أية روابط. 

ولا يختلف الحال في الشرق، فإن السكان ينتمون الى أعراق مختلفة ويتكلمون لغات عدة، وإن جاء الإسلام كعنصر موحد، فإن سكان الإقليم لا يدينون بالإسلام جميعهم، بل هناك ديانات أخرى من بينها المسيحية واليهودية.  

ولم تكن أوروبا في أي وقتٍ من الأوقات مسيحية بالكامل، فقد كان هناك أقليات يهودية منتشرة في المدن القديمة.  ثم دخل الإسلام من الناحية الغربية، بينما كان الشمال الأوروبي لا يزال على وثنيته .

ومع هذا فقد طُبعت أوروبا بطابعٍ مسيحي، وطُبع الشرق بطابعٍ إسلامي.  وهذا ليس له علاقة بطبيعة العلاقة.  فلم يكن الصراع بين روما وقرطاجة الوثنيتين أقل حدة.  ولم تكن الحروب بين بيزنطة وفارس لتهدأ ابداً.  ولم يحمل الفنيقيون رايةً دينية وكذلك الإسكندر. 

في أوروبا المعاصرة، يحلولكثيرٍ من الأوروبيين أن يصفوا حضارتهم بأنها " يهودية مسيحية " Judo -Christian .  وهذا وصفٌ دقيق الى حدٍ بعيد، وقد شاع بعد الحرب العالمية الثانية. 

وعلى الرغم من أن المثقفين العرب أوالمسلمين قل أن يفعلوا شيئاً مشابهاً. فإن مكانة الديانات السماوية في الثقافة العربية كبيرة وتأثيرها كبير، فالإسلام هو" الدين " الذي جاء به الأنبياء جميعهم، وبالتالي فإنه يُفترض أن الجميع أتباع دينٍ واحد.  مع تحفظ المسلمين على خروج أتباع الديانتين عما كان عليه الدين بدايةً بإدخال عليه ما ليس منه.  إلا أن المؤثرات الثقافية لليهودية والمسيحية قوية للغاية، وذلك لسببين، الأول الإرث الديني التاريخي المشترك، والثاني مساهمات أتباع هذه الديانات الغزيرة في صنع وبلورة وإغناء الثقافة العربية. 

وقد كان يترجم هذا الإعتقاد بأن الأديان المعترف بها في الدولة الإسلامية هي الأديان الثلاث.  وقد رُوي أن هارون الرشيد قابل جماعة في آسيا الصغرى يدينون بدينً غير معروف، فخيرهم بين الأديان الثلاث، ولم يجبرهم على الدخول في الإسلام من دونها. 

وقد ذكرنا قصة نزول سورة الروم، وهي ليست السورة الوحيدة التي تتطرق الى الحديث عن مجتمعات مسيحية بتعاطف، سواءً لتعرضها لهزيمةٍ عسكرية اولتعرضها للاضطهاد، وقد كان السياق العام يوحي بأن مسلمين يتعرضون للاضطهاد، مثل قصة الأخدود والكهف و"القرية" التي يعتقد أنها إنطاكية، التي كانت مهد المسيحية.  وهذه قصص تتعلق بالمؤمنين والدعاة الأوائل الذين تحملوا العذاب ولاقوا الاضطهاد لنشر الدين، الذي كان في هذه المرحلة المسيحية.  

وقد جاء الاضطهاد على أيدي الرومان، الذين أحسوا بخطر الدين الجديد، الذي بدأ يتغلغل في أوساط المجتمع وفي أوساط الجيش، ولم يكن المعتقد الجديد قابلاً للاستيعاب ضمن المنظومة الدينية الوثنية التي كانت قائمة في العالم حينئذٍ.  فعندما انتشرت بعض المؤثرات الدينية السامية في المدن الرومانية، تم استيعابها بقرن عشتار بفينوس، اوجوبيتر بمردوخ الذي كان يُعبد فيما بين النهرين، وهكذا. وهذا قابل للتطبيق في الديانات الوثنية في جميع العالم في جميع العصور. وقد عرض فكرة الاستيعاب هذه، بعض المفكرين الهندوس على المسلمين والمسيحيين في الهند في زماننا هذا من أجل توحيد العقيدة في بلادهم .

أخذ الاضطهاد الديني أشكالاً عديدة، وعندما أخذت قريش بتعذيب المسلمين الأوائل، كانوا يشكون أمرهم للرسول، فكان يجيبهم بأن الذين كانوا قبلهم كانوا يُقطعون بالمناشير، وما كانوا يتراجعون عن معتقداتهم.  وقصد بذلك أتباع عيسى عليه السلام.  

ولم يكن الربط مع من سبق يقتصر على هذا البعد، إنما ذكر في الحديث عن العبادات " كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْصِّيَامُ كَمَاْ كُتِبَ عَلَى الَّذِيْنَ مِنَ قَبْلِكُمْ " [1] وعندما يتحدث عن نموذج الإنسان المؤمن    " مُحَمَّدٌ رَسُوْلُ الله وَالَّذِيْنَ مَعَهُ، أَشِدَّاْءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاْءُ بَيْنَهُمْ، تَرَاْهُمْ رُكَّعَاً سُجَّدَاً يَبْتَغُوْنَ فَضْلَاً مِنَ الله وَرِضْوَانَاً، سِيْمَاهُمْ فِيْ وُجُوْهِهِمْ مِنْ أَثَرِ الْسُّجُوْدِ، ذَلِكَ مَثََلَهُمْ فِيْ التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِيْ اْلِإنْجِيْلِ.. ". [2]

على أن الرومان لم يتوقفوا عن اضطهاد المسيحيين بعد أن أصبحت المسيحية دين الدولة، فاستمروا بإضطهاد أتباع المذاهب المخالفة.  وهكذا تعرض السريان والعرب والقبط الى بعض أشكال النبذ والاضطهاد .  ومن بينهم الغساسنة الذين كانوا شديدي الحرص أن يكون هناك أسقف عربي على مذهبهم، وأن يحققوا بعض الاستقلال الروحي.  وقد تبنى هذا الهدف واستشهد وعانى من أجله ثلاثةٌ من عظام ملوك العرب.  وفي الواقع تم تصفية دولة الغساسنة نهائياً، وقد خسرت بيزنطة من وراء ذلك خسارةً عظيمة، فقد خاضت خلال الستين سنة التالية، ثلاثة حروب، خسرت الأولى أمام الفرس وفقدت الشام ومصر، وربحت الثانية واستعادتهما بعد جهدٍ شديد، وخسرت الثالثة أمام العرب، وخسرت الشام ومصر وشمال إفريقيا وأرمينيا، ولم يكن للعرب دورٌ منظم في هذه الحروب جميعاً، وكان هذا له تأثيره.  لا ندري فلوبُعث محمد (ص) في زمن الحارث بن جبلة، فلربما كانت هجرته الى الشام بدلاً من المدينة.

لا يستطيع الباحث إلا أن يتوقف أمام ظاهرة اختفاء الدول العربية التي كانت قائمة على أطراف الجزيرة قبيل البعثة، فقد اختفت دولة الغساسنة نتيجةً للخلافات مع بيزنطة ونتيجةً للاحتلال الفارسي.  كما اختفت دولة المناذرة نتيجةً لخلاف مع الدولة الفارسية، كما اختفت دولة اليمن على أيدي الأحباش، الذين اختفوا، بدورهم من المشهد السياسي على أيدي الفرس.  كما اختفت قبلهم دولة كندة في الشمال.

وكان إزاحة هذه القوى يبدووكأنه إفساح المجال لقوةٍ كبيرة، ما كانت لتُخلق وسط هذا الزحام.  وجاءت الدعوة، وسرعان ما تحولت الى دين، ثم أصبح لهذا الدين دولة.  ومنذ البداية لم يناصب الدين الجديد العداء للأديان التي تقر بعبادة الله.  لقد أثر وجود طائفة يهودية في المدينة، ناصبت الدين الجديد عداءً شديداً، على العلاقة بينهم وبين المسلمين.  وقد ذُُُُكروا في القرآن مراراً، كجهة معادية للدين، أما الرومان فإنهم لم يردوا في القرآن كجهة معادية.  وينطبق الشيء نفسه على المسيحية، الذين وصفهم القرآن بأنهم " .. وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَةً لِلَّذَِْنَ آمَنُوْا الَّذِينَ قَالُوْا إِنَّاْ نَصَاْرَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيْسِيْنَ وَرُهْبَاْنَاً وَأَنَّهُمْ لَاْ يَسْتَكْبِرُوْنَ " [3] .  وقد رسخ القرآن قاعدة التعامل مع أهل الكتاب " قُلْ يَآ أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَاْلَوْا إِلَى كَلِمَةٍٍ سَوَاْءٍ بَيْنَنَاْ وَبَيْنَكُمْ أَنْ لَاْ نَعْبُدَ إِلَّاْ اللَه، وَلَاْ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئَاً وَلَاْ يَتَّخِذَ بَعْضُنَاْ بَعْضَاً أَرْبَابَاً مِنْ دُوْنِ الله فَإِنْ تَوَلَوْا فَقُوْلُوْا اشْهَدُوْا بِأَنَّاْ مُسْلِمُوْنَ". [4]  

ولم يكن للدين دورٌ فعلي في الصراع، ففي القرن التالي، تحالف الأباطرة، حماة الكنيسة في الدولة الرومانية الشرقية مع الخلفاء الأمويين، حماة الدين في الأندلس، كما تحالف الخلفاء العباسيين في بغداد مع أباطرة الإمبراطورية الرومانية المقدسة ضد الحلف الأول.  فالدين بريء مما يُنسب إليه من حروب. 

منذ أن بدأ الإنسان بتدوين التاريخ، الذي كان في الأساس، تاريخاً عسكرياً، ومنذ أن استطاع الإنسان أن يدجن الحصان واستطاع أن يُطوع المعادن، فصنع أولى أدواته وهو رأس حربة. بدأ بخوض نزاعات منظمة ضد مجموعاتٍ أُخرى من البشر، عادةً ما يوجد بينها قواسم مشتركة.  وقد سجل التاريخ عدداً هائلاً من الحروب التي وقعت بين الجيران.  سواءً كانوا دولاً اوقبائل اوطوائف.  ولكن هناك عدد أقل بكثير من الحروب التي شنتها دولة       ( اوجماعة ) ضد دولة أُخرى لا تجاورها.  الأمر الذي يعني غالباً اكتساح جار مشترك أو أكثر.  إن هذا النوع من الحروب لم يُعرف منذ فجر التاريخ لغاية بداية القرن العشرين، إلا في المنطقة موضوع بحثنا، أي أوروبا والشرق (غرب آسيا وشمال إفريقيا) فلا يُستثنى من ذلك إلا حملات المغول وهجرات الآفار والهون والترك من أواسط آسيا.  فلا عجب إن اعتقدنا أن السلام العالمي يعتمد على وجود علاقة أفضل بين هذين الإقليمين (أوالحضارتين)، وأنَّ تكاملاً أعرض بينهما سيغني الحضارة الإنسانية.   

 




[1]  سورة البقرة،آية 183.

[2]  سورة الفتح، آية 29.

[3]  سورة المائدة، آية 82.

[4]  سورة آل عمران، آية 64.

 
 

 


تعليقات

لا يوجد تعليقات

الإسم 
البريد الإليكتروني (ليس للنشر)
التعليق
هل توافق على الانضمام لمجموعتنا البريدية؟
  أرسل

 

Counter