نحن وأوربا - ج 2 - الفصل الثاني - الدولة الأموية
 
 



الفصل الثاني
الدولة الموية
معاوية
تولى معاوية الخلافة سنة 08 للهجرة، عندما تنازل له الحسن بن علي عن الخلافة، حرصاً على
وحدة الصف. وكان الحسن قد بويع بالخلافة بعد مقتل أبيه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بنفس
السنة.
وكان علي قد قُتل نتيجةً لمؤامرة خارجية، فيذكر الرواة أن جماعة من الخوارج قد تذاكروا الوضع
الذي آلت إليه الأمة من فُرقة، مع عدم وجود ما يبشر بمخرج، إذ كانت الجبهة الداخلية في الكوفة
مفككة. كما أن الخوارج كانوا قد أصبحوا يعادون علي مثلما يعادون معاوية. فإقترح أحدهم تخليص
الأمة من علي ومعاوية وعمرو بن العاص جميع اً. فتط وع ثلاثةٌ منهم على القيام بهذه المهمة، بحيث
يتولى كل واحدٍ منهم أحد الثلاثة، فتواعدوا السابع عشر من رمضان من سنة 08 ه، بحيث ينفذوا ما
إتفقوا عليه قبل صلاة الفجر. فقام إبن ملجم، أحد الثلاثة، بمهاجمة علي في مسجد الكوفة، فجرحه
جرحاً بليغاً مات منه خلال أيام، وتم إعدام إبن ملجم، الذي قُبض عليه حياً، بعد وفاة علي.
أما رفيقه الثاني فقد تمكن من جرح معاوية في إليته، وتم القبض عليه وقتله، وهاجم الثالث شخصاً
آخر خرج للصلاة مكان عمرو، لأنه كان متوعكاً، فقتله، وقُتل به 37 .
لم يقتل إبن ملجم إلا بعد موت علي بناءاً على حكم علي نفسه. فقد كان قاضياً عادلا . فقد طلب
إنتظار نتيجة الطعنة، فعقوبة القتل غير عقوبة التسبب بجروح.
تم إختيار الحسن، دون أن يوصي بذلك علي، حيث بايعه أهل الكوفة. ولما بلغ معاوية ذلك أخذ
البيعة لنفسه في القدس. وكان علي قتل وقد عزم على غزو الشام بجيش قوامه أربعين ألف مقاتل،
وذلك رداً على س ا ريا كان معاوية بعثها الى انحاء مختلفة من دولة علي. فقام الحسن بقيادة هذا الجيش
متجهاً شمالاً إلى المدائن، حيث ظهر من سوء تصرف أهل الكوفة ما جعله يسعى إلى إنهاء الص ا رع
بالتنازل لمعاوية. فقد قاموا بنهب خيمته والإساءة إليه شخصي اً. فكاتب معاوية يفاوضه على شروط
التنازل، فأعطاه اكثر مما طلب بأن أرسل إليه كتاباً مختوماً ليكتب فيه ما يشاء من شروط 38 . ولكن
37 البداية والنهاية، إبن كثير.
38 الكامل في التاريخ.
34
معاوية لم يتقيد بمعظم هذه الشروط، وكان من بينها عدم لعن علي، وهو شرط ما كان ليضر معاوية
العمل به، تنازل الحسن بعد أن حكم ستة أشهر، فقدم معاوية إلى الكوفة حيث أخذ بيعة أهلها.
يسمى هذا العام، عام الجماعة، بسبب توحد الأمة على خليفةٍ واحد.
68 (، وأبوه أحد أكبر زعماء قريش في زمن البعثة النبوية وخريج – ومعاوية بن أبي سفيان ) 08
مدرسته، وهو كذلك خريج مدرسة هند بنت عتبة، أُمه. لقد كان أبو سفيان قيادياً من ط ا رز خاص، فهو
يتقن ممارسة القيادة في الظروف الصعبة، وقد كان قائد قريش المطاع دون مبايعة من ساداتها، كما
كان حليماً بعيد النظر ويملك رؤيا. وكان أكثر ما إشتهر به الحلم. كما كانت هند إبنة أحد سادات
قريش، وكانت تحب الزعامة وتدعم زوجها في تعزيز دوره القيادي غير المؤسسي، كما كانت تطم
لأبناءها دو ا رً أعظم. لقد كان معاوية أسي ا رً لتعاليم هذه المدرسة، وبتقديري لم يكن حليماً بقدر ما كان
متحالماً، ولم يكن عفواً، ولكنه كان يتظاهر. ويثبت ذلك من خلال إص ا رره على لعن علي على المنابر
بعد موته ولفت رةٍ طويلة، واص ا رره على معاتبة مؤيدي علي عند لقاءهم مما عزز الفجوة بدلاً من ردمها.
هناك العش ا رت من القصص التي وصلتنا تدل على ذلك. كما أنه لجأ إلى قتل بعض الذين قاتلوا مع
علي، وحبس البعض الآخر.
قتل معاوية حجر بن عدي لأنه كان لا يرضى عن لعن علي في الكوفة، فبعث معاوية إلى واليه
أن يرسله مكبللاً، وعندما دخل عليه لم يرد عليه السلام وأمر بقتله 39 . لم يكن حجر محرضاً ولكن
كان عابداً لا يقبل بممارسة غير لائقة، ولم يتعدى إحتجاجه عليها الكلام.
لقد دخل معاوية الإسلام بعد الفت ، حيث إنتقل إلى المدينة وعمل كاتباً لدى ال رسول، وهو أحد
كتاب الوحي. وهو ينتمي إلى نفس الفرع من قريش الذي ينتمي إليه الرسول، وهو عبد مناف، والذي
ينتمي إليه كل من فخذي هاشم وأمية، اللذان ينتمي إليهما كل من الرسول )ص( ومعاوية. وهو من
مواليد 010 م تقريباً، على أساس أنه كان في الثامنة والسبعين عند وفاته سنة 68 ه، فلم يشارك في بدر
وأحد لصغر سنه، ولكنه شارك في الأح ا زب مع المشركين. إنضم معاوية إلى أحد جيوش الفت الشامي
التي كان أخوه يزيد على أ رسها، وولاه قيسارية ففتحها وحكمها، وهو أول منصب تولاه. وولاه عمر
مكان يزيد بعد وفاته في طاعون عمواس سنة 91 ه 40 ، وكان يزيد قد تولى الشام وقيادة جيوشها بعد
وفاة ابو عبيدة.
39 الطبري.
40 الإستيعاب في معرفة الأصحاب.
35
لقد حكم معاوية عشرين سنة كخليفة، كما حكم عشرين سنة كوالي، إستقرت الأوضاع خلالها، حيث
لم تشهد البلاد أي إقتتال داخلي، فقد خمدت الفتنة تماماً، بإستثناء ما كان من ثو ا رت متفرقة من
الخوارج. حافظ معاوية على التقسيمات الإدارية ذاتها التي كانت موجودة قبل توليه الحكم، بإستثناء
ضم البصرة والكوفة. فقد كانت هناك ولايات مصر والشام والكوفة والبصرة والمدينة ومكة واليمن
واليمامة والبحرين، ولكنه غير معظم الولاة ؛ فكان عمرو بن العاص على مصر وزياد على البصرة، ثم
ضم إليه الكوفة، وكان يناوب بين مروان بن الحكم وسعيد بن العاص على المدينة.
لقد أسس معاوية سلالة لم تستمر لأكثر من جيلين، ولكن أُعيد تأسيها من قبل فرع آخر من
الأمويين، فأُعتبرت جميعها سلالة واحدة.
مات إثنين من أبناء معاوية في حياته، ولم يعقب سوى يزيد وابنة تزوجها إبان بن عثمان بن عفان.
وهو أول من إتخذ حرساً، وقد فعل ذلك قبل توليه الخلافة. لقد كان معاوية احد دهاة العرب الأربعة،
كما إستطاع إستقطاب الثلاثة الآخرين إلى حزبه، وهم المغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص وزياد بن
ابي سفيان. وقد كان الأخيرين إبنين غير شرعيين لأبويهما، من العهد الجاهلي، ولم يعرف التاريخ
الإسلامي غيرهما من الأبناء غير الشرعيين الذين تولوا مناصب رفيعة.
ومعاوية هو صاحب "شعرة معاوية"، التي تدل على حنكته ودهاءه. وقال عنه عبد الله بن عباس
"ما أ ريت رجلاً أخلق بالملك من معاويه" 41 . وقال معاوية يوم اً لعمرو بن العاص : ما أعجب الأشياء ؟
قال : غلبة من لا حق له ذا الحق على حقه. قال معاوية : أعجب من ذلك أن يُعطى من لا حق له ما
ليس بحق من غير غلبة ! 42 .
وقال معاوية: "أُعنتُ على عليٍّ بأربعة، كنت أكتم سري، وكان رجلاً يظهره؛ وكنت في أصل جند
وأطوعه، وكان في أخبث جند وأعصاه؛ وتركته وأصحاب الجمل وقلت: إن ظفروا به كانوا أهون عليّ
منه، وان ظفِر بهم إغتر بها في دينه! و كنت أَحب إلى قريش منه" 43 .
النشاطات العسكرية
في العام 30 ه ) 601 م( قام الإمب ا رطور البيزنطي قونسطانز الثاني بحملة على شمال سوريا،
ولكن معاوية المنشغل بص ا رعه مع علي أبرم معه إتفاقاً دفع بناءاً عليه له مالاً مقابل عدم
41 البداية والنهاية.
42 العقد الفريد.
43 العقد الفريد.
36
الإعتداء 44 ، حيث تفرغ كل منهما لمشاكله الداخلية، معاوية مع علي وكونستانز مع البابا مارتن الأول
واللومبارد في إيطاليا.
لقد توقفت الغزوات منذ مقتل عثمان، حتى كان عام الجماعة فنظم معاوية ستة عشر غزوة.
فينطلق جيش في الصيف فيشتي بأرض الروم ثم يعود ويذهب جيشٌ آخر. وهكذا بدأت الصوائف
والشواتي 45 .
قام عمرو بن العاص، والي مصر، بتعيين عقبة بن نافع سنة 02 ه ) 663 م(، وهو إبن خاله ليغزو
أقاليم مختلفة في شمال إفريقيا 46 . حيث فت تونس وأسس فيها، فيما بعد، القيروان 47 . وقد كان هذا
الإقليم بيد بيزنطة، الذي كان إمب ا رطورهم قنسطان ا زلثاني يقود حملة ضد اللومبارد من قاعدة له في
صيقلية. فيكون هذا اول إحتكاك مع الروم بعد إستتباب الأوضاع.
في العام 03 ه غ ا ز بُسر بن ابي أرطاة الروم وشتا بارضهم حتى بلغ القسطنطينية. وفي سنة 00 ه
غ ا ز عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بلاد الروم 48 ، كما غ ا ز بسر بن ابي ارطاة في البحر.
وفي سنة 06 ه غ ا ز عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ارض الروم 49 . كانت هذه الغزوة في عهد
الإمب ا رطور البيزنطي قونسطانز الذي إنتهى عهده بالقتل سنة 660 ميلادي ) 00 ه( من قبل مسيتيوس،
الذي إغتصب السلطة لمدة عامٍ واحد.
وفي سنة 00 ه )سنة 660 م( إعتلى العرش البيزنطي قنسطنطين ال ا ربع، فحكم إلى ما بعد وفاة
معاوية، شتى مالك بن هبيرة بارض الروم. كما كان هناك غزوات في السند ووسط آسيا.
وفي سنة 00 ه كان مشتى عبد الرحمن القيني بانطاكية، )يظهر إسمة القتبي في مصادر أخرى(
وصائفة عبد الله بن قيس الف ا زري، وغزوة مالك بن هبير السكوني البحر، وغزوة عقبة بن عامر الجهني
البحر باهل مصر والمدينة.
وفي سنة 01 ه كان مشتى مالك بن هبيرة بارض الروم، وفتحت جربة، وفيها كانت صائفة عبد الله
بن كرز، وغزوة يزيد بن شجرة الرهاوي في البحر فشتا باهل الشام، وغزوة عقبة بن نافع في البحر.
وفي سنة 09 ه كان مشتى فضالة بن عبيد بارض الروم وصائفة بسر بن ابي ارطاة، وفي سنة
02 ه كان مشتى سفيان بن عوف بارض الروم. وفي سنة 03 ه كان مشتى عبد الرحمن بن ام الحكم
بارض الروم 50 .
44 The Byzantine Empire, Charles Oman.
45 البداية والنهاية.
46 البلاذري.
47 الكامل في التاريخ.
48 البداية والنهاية.
49 البدايو والنهاية.
37
وفي سنة 03 ه تم فت رودس بقيادة جنادة بن ابي امية، ووضع بها حامية 51 . وقد بقيت بيد
المسلمين الى زمان يزيد الذي امر باخلائها.
وفي سنة 00 ه كان مشتى محمد بن مالك بارض الروم وصائفة معن بن يزيد السلمي، كما تم بها
فت جزيرة ارواد بالقرب من القسطنطينية بقيادة جنادة بن ابي امية، حيث بقوا فيها سبع سنين الى أن
أمر بإخلائها يزيد.
وفي سنة 00 ه كان مشتى سفيان بن عوف بارض الروم. وفي سنة 06 ه كان مشتى جنادة بن
ابي امية بارض الروم، وغ ا ز يزيد بن شجرة الروم بح ا رً وغ ا زهم ب ا رً عياض بن الحارث 52 .
وفي سنة 00 ه كان مشتى عبد الله بن قيس في ارض الروم، وفي سنة 00 ه غ ا ز مالك بن عبد
الله ارض الروم، كما غ ا ز عمرو بن يزيد الروم بح ا رً.
وفي سنة 01 ه كان مشتى عمرو بن مرة بارض الروم.
وفي سنة 68 ه ) 608 م( كانت غزوة مالك بن عبد الله ارض الروم.
لقد لعب عبد الرحمن بن خالد بن الوليد دو ا رً كبي ا رً في هذه الأعمال العسكرية حتى لمع نجمه في
الشام، فخافه معاوية، فطلب من يدس له السم عند عودته إلى حمص، حيث كان يقيم، فمات، فقام
إبنه خالد بن عبد الرحمن بقتل هذا الشخص فحبسه معاوية لبعض الوقت 53 .
صلح النوبة
يتضمن كتاب "فتوح البلدان" للبلاذري مداخلة بعنوان “صل النوبة "، ويبدو الإسم غريباً في زمن
غلبت فيه النشاطات العسكرية التي تنتهي بالفت على تلك التي تنتهي بصل يضع حداً للإقتتال لفت ا رت
طويلة. وكتاب فتوح البلدان، هو كتاب قانوني أكثر منه كتاب تاريخي. فهو سرد لما أُتفق عليه عند
فت كل مدينة واقليم، من أجل التعامل مع شعوب هذه الأقاليم في الحقوق والواجبات، وبينها الجزية.
وهذا يدل على إحت ا رم العرب للإتفاقيات والعهود. فقد إستمر العمل ببعض هذه الإتفاقيات لقرون عديدة،
وصل النوبة هذا من بينها، حيث إستمر العمل به لستة قرون، وتُعتبر بذلك أطول معاهدة في التاريخ.
فقد أرسل عمرو بن العاص عندما كان والياً على مصر في عهد عمر بن الخطاب، عقبة بن نافع
على جيشٍ لغزو بلاد النوبة، فإستطاع النوبيون صدهم بإعتمادهم على الرشق في السهام، التي كانوا
50 الكامل في التاريخ.
51 الواقدي.
52 البداية والنهاية.
53 الكامل في التاريخ.
38
ماهرين بها، ونجاحهم في منع الإلتحام وبالتالي الإقتتال بالسيوف، وتك ررت المحاولة دون نتيجة.
وعندما ولي عبد الله بن سعد بن أبي السرح مصر في زمن عثمان غ ا زهم، فتصالحوا على أن يدفعوا
بثلاثمائة عبد كل سنة، ويعطيهم المسلمون بالمقابل مواد غذائية بنفس القيمة. وقد سميت هذه الإتفاقية
"البقط"، وهي مأخوذة من الكلمة اللاتينية Pact ، وهي إتفاقية تبدو تجارية، ولكنها تنص أيضاً على
عدم الإعتداء.
وفي زمن المتوكل حاول النوبيون التنصل من الإتفاقية مدعين أن عليهم دفع ما عليهم كل ثلاث
سنين، فبحثوا عن وثيقة الإتفاقية فوُجدت في الديوان في مصر. وكان المتوكل قد ولى محمد بن عبد
الله القمي مصر العليا، حيث توجد مناجم للذهب ويمر طريق الحاج.. وكانوا قد شغبوا على أعمال
المناجم القريبة منهم. فقام محمد بغزوهم وهزيمتهم، فطلب ملكهم الصل ، فأصر المتوكل أن يأتي إلى
سام ا رء سنة 309 ه، وفي سام ا رء تم إق ا رر الإتفاق القديم " البقط " وأُضيف إليه إتاوة سنوية.
تتعامل المصادر العربية مع النوبيين على أنهم دولة واحدة، ولكنهم في بعض الأوقات كانوا
ينقسمون إلى ثلاث دول ؛ النوبة مابين الشلال الأول والثالث وعاصمتها قصر إبريم، والمقرة ما بين
الثالث والسادس وعاصمتها دونقلة، أما الثالثة فإسمها ألوديا وعاصمتها سوبا، وهي إلى الجنوب، ولا
يُعرف الكثير عنها. وكانت هذه الدول قد إندمجت في بعض م ا رحل تاريخها، مما يشير أنه من
المحتمل أنها كانت دولة واحدة عند بدء إحتكاك العرب معهم، فالمعركة التي خسرها العرب كانت في
عاصمة الدولة الوسطى، أي أنهم تجاوزوا الدولة الشمالية ليصلوا إليها، وهذا مل لم تشر إليه المصادر.
بقي السلام النسبي قائماً، وبقيت المعاهدة موضع تطبيق، إلى زمن صلاح الدين الأيوبي، حيث
قاموا بمهاجمة القاهرة، فأرسل صلاح الدين أخاه على أ رس حملة سنة 9909 م حيث وصل إلى قصر
إبريم وفتحها، ولكنه لم يزحف إلى الجنوب.
شهد القرنين الثاني عشر والثالث عشر زحف قبائل بدوية عربية إلى النوبة، حيث ت ا روحت العلاقة
بين العرب والنوبيين بين الغزو والت ا زوج، وبفعل هذين المؤثرين تم تعريب وأسلمة النوبة. أما الدولة
الوسطى المقرة، فقد هاجمها بيبرس رداً على مهاجمتهم عيذاب، الميناء المصري الواقع على البحر
الأحمر، حيث تركوا حامية مملوكية في دنقلة العاصمة، ولكن خلاف عائلي على الحكم أدى إلى تدخل
مملوكي آخر في شؤونها حيث أيدوا واحداً ضد الآخر، حيث تم إج ا رء تعديل على البقط. ولكن خلاف
آخر، جرى لاحقاً، وضع مسلماً على العرش، حيث كان الإسلام قد تسرب إلى العائلة الحاكمة.
فأصب سيف الدين عبد الله بارشمبو، ملكاً وأخذ الإسلام ينتشر بقوة بين أبناء البلاد. لم تنضم النوبة
إلى الدولة الإسلامية إلا عندما إجتاح العثمانيون الشرق كله بما في ذلك النوبة. ولكن دخول النوبة في
الإسلام جعل الإتفاقية لاغية.
39
حصار القسطنطينية الول
في سنة 08 ه )سنة 608 م( أرسل معاوية جيشاً كثيفاً إلى بلاد الروم بقيادة سفيان بن عوف، وكانت
فكرة إرسال حملة ضد القسطنطينية تعود إلى أواخر عهد عثمان، ولكن الخلافات التي وقعت بعد مقتل
عثمان أجلت المشروع. وكان معاوية قد حاول إرسال إبنه يزيد مع الجيش ولكنه تثاقل، فأصاب الجيش
مرض ونقص في التموين، فقال يزيد بذلك شع ا رً يعبر عن غبطته لعدم وجوده في الجيش، فأصر،
عندئذٍ، معاوية عليه أن ينضم الى الجيش مع مددٍ أرسله إلى الجيش ومعهم عدداً من الصحابة
المعروفين مثل ابو ايوب الأنصاري وابن عباس وابن الزبير وابن عمر. فتولى يزيد قيادة الجيش وأوغل
في بلاد الروم حتى وصل أسوار القسطنطينية 54 ، ففتحوا عمورية وخلقيدنيا، وكان ذلك في عهد
الإمب ا رطور البيزنطي قنسطنطين ال ا ربع. فإشتبكوا مع الروم في أول لقاء بين المسلمين والروم عند
القسطنطينية في اول حصار إسلامي لها. كما توجه اسطول من الموان السورية إلى القسطنطينية،
حيث تمكن من تدمير الاسطول الإمب ا رطوري والعبور من خلال الدردنيل وأخذ مدينة قزيكوس
Cyzicus ، التي إتخذها الجيش قاعدة 55 . ثم أطبقوا الحصار على البسفور. وكانت الدولة البيزنطية
بأفضل أحوالها وكانت مستعدة للحصار كعادتها، فصمدت. وقد إستمر الحصار عشر سنوات في
روايات المؤرخين العرب، وأربع في روايات المؤرخين الغربييين، حتى إستخدم الروم النار الإغريقية
كسلاح حسم المعركة لصال الروم، حيث أعطاهم السيادة في البحر بعد مهاجمة الأسطول الأموي،
مما ساعد على إح ا رز أنتصا ا رت برية أيض اً واضعاف الحصار. فتم إتخاذ ق ا رر بفك الحصار
والإنسحاب. وقد تم إخلاء المدن المفتوحة بعودة الحملة العسكرية إلى دمشق. وفي هذه المعركة إستشهد
ابو ايوب ودفن على مقربة من سورها ولا ي ا زل قبره موجوداً إلى الآن.
وأثناء الحصار تقدمت قبائل بلغارية وسكنت البلقان، وبعد إنتهاء الحصار، كانت الجيوش البيزنطية
منهكة لدرجة لم تحاول إخ ا رجها. أظهر التصعيد للص ا رع المتمثل بإستهداف عاصمة الإمب ا رطورية
وحصارها، أن القضية قضية بقاء. فعلى الرغم من أن القسطنطينية أُستهدفت وحوصرت م ا ر ا رً عديدة
من قبل قوى أوربية وأخرى آسيوية، فقد أدرك الروم أن هذا العدو مختلف.
وفي نفس السنة التي هاجمت فيها الجيوش الأموية القسطنطينية، 08 ه، بنى عقبة بن نافع مدينة
القيروان، لكي تكون قاعدة لجيشه وليضمن عدم إرتداد سكان هذه المنطقة بعد عودة الجيش الى برقة،
حيث كان مقرة، وكان محيطها ثلاثة آلاف وستمائة باع 56 .
54 الكامل في التاريخ.
55 The Byzantine Empire, C. Oman.
56 الكامل في التاريخ.
40
وفي سنة 09 ه قتل معاوية حُ جر بن عدي وأصحابه. وكان حُجر لا يرضى بشتم علي من قبل
ولاة معاوية على الكوفة، فكان يعترض على ذلك. فإعتقله زياد وأرسله إلى دمشق فأمر بقتله ورفاقه.
وهو بذلك أول من نفذ حكم الإعدام لأسباب سياسية في الإسلام، على الرغم من مخالفة ذلك للشرع
الإسلامي.
بيعة ي يد
سعى معاوية لأن يورث الحكم لإبنه بمرحلةٍ مبكرةٍ جداً، ولكنه كان يستطلع الآ ا رء بتردد وحرص
شديدين. لقد عرف العرب نظام التوريث في ممالكهم في الجنوب والشمال، الغساسنة والمناذرة، وكذلك
من الفرس. كما كانت زعامة القبائل تنتقل للإبن الأكبر. وفي الحقيقة أن النظام الجمهوري الروماني لم
يكن معروفاً لدى العرب، كما أن نظام الإختيار الذي أُعتمد في الخلافة ال ا رشدية، كان غريباً عليهم
بعض الشيء، كما أنه غير متسق، فكل خليفة ا رشدي بويع بطريقةٍ مختلفة.
فمنذ مرحلة مبكرة، أصب هاجس الو ا رثة يشغل معاوية. فكان يستشير المقربين إليه في هذا الأمر،
وكان، في الغالب يلقى إجابات على عكس ما يشتهي. ولكن تدريجياً أدرك الناس أنه جادٌ في
الموضوع، فبدأ يتكون أ رياً عاماً مؤيداً في الشام، الأمر الذي شجع معاوية أن يطلب من ولاته أن يرسلوا
وفوداً من إقاليمهم إلى دمشق. وقد إستمع معاوية للخطباء وكان غالبيتهم مؤيدين، كما إستهجن
البعض البيعة في حياة معاوية.
وفاة معاوية
توفي معاوية سنة 68 ه، عن عمر 00 سنة في أفضل الروايات، إذ أن الروايات الأخرى التي
تجعله فوق الثمانين، تعني أنه كان بحدود العشرين يوم بدر، وأكبر من ذلك يوم أحد، ومن المعروف
أنه لم يشارك بهما لصغر سنه.
عانى معاوية في آخر عمره من سمنة مفرطة مع ضعفٍ شديد، ولكنه كان مكاب ا رً يخشى الشماتة.
وهذا يشكل جزءاً من تركيبته، فقد كان يميل إلى تصفية الحسابات، ولم يكن مسامحاً بطبعه على عكس
ما أشتهر عنه. ولكنه كان قائداً محنكاً قاد ا ر على السيطرة على مشاعره، ولديه بعد نظر ويملك رؤيا
ثاقبة، ولديه القدرة على الت ا رجع ويعرف كيف يخرج من المآزق. وكان عمر قد وصفه بأنه الذي
يضحك عند الغضب. لقد كان معاوية يملك قدرة عجيبة على تبرير أعماله، فعندما قابل عائشة في
المدينة بعد قتله لحُ جر بن عدي، الأمر الذي شُجب من قبل جميع المؤرخين عبر العصور، قال لها
أقتل رجلاً واحداً أفضل من أن يُسل مائة الف سيف.
41
وقد كانت من وصية معاوية قبل وفاته "شد خناق الروم"، فقد أدرك من تجربة نصف قرن في الشام
كجندي ووالي وخليفة أن الروم لن ينسوا ولاياتهم الشرقية، فكانت الشواتي والصوائف تتناوب في ردع
الروم. ولكن رواية غربية تذكر أن معاوية عقد إتفاقاً مع القسطنطينية في عامه الأخير إلتزم بدفع إتاوة
سنوية 57 . وهذا ما لم تذكره المصادر الإسلامية. وهناك ما يبرر قبول هذه الرواية، فعلى الرغم من
قدرته على المواجهة فلم يكن يضمن قدرة وريثه، الذي كان معاوية يرى أنه سيقابل معارضة، فربما أ ا رد
معاوية أن يفرغ يزيد للتعامل مع هذه المعارضة.
تولى ي يد بن معاوية ) 68 ه – 60 ه( الخلافة بعد أبيه. وكان يزيد مرفوضاً، ليس بطريقة إختياره
فحسب، بل لشخصه، فقد أكد رواة كثيرون أنه كان "صاحب لهو"، فهو يشرب الخمر ويمارس الصيد
ويستمع إلى الغناء، ولهذه الأمور مؤش ا رت تدل على عدم جديته واستقامته. كما أنه لم يكن أفضل
الموجودين، فقد كان الكثيرون من أبناء الصحابة ممن تربوا في مدارس الجيل الأول، من هو أفضل
منه.
على أن يزيد، هو الآخر كان إبن مدرسة معاوية. فلم يبدأ عهده بتغيير الولاه، بل أقرهم جميعاً في
أماكنهم. وبدأ عهده بتقديم ثلاثة تنازلات لأهل الشام؛ فقد وعدهم أن لا يغزو بهم في الشتاء ولا في
البحر وأن يدفع لهم أعطياتهم دفعةً واحدة، بينما كان معاوية يدفعها على ثلاث دفعات. الأمر الذي
حبب الناس فيه. وفي عهده تم إخلاء جزيرة رودس وهدم حصنها بعد سبع سنوات من فتحها 58 وكذلك
جزيرة إرواد، اللتين فُتحتا في عهد أبيه. ويبدو أن هذا كان جزءاً من إتفاق السلام الذي عقده معاوية،
مع إمب ا رطور بيزنطة ووافق على دفع 3888 رطل من الذهب سنوياً لمدة ثلاثين سنة، المذكور آنف اً،
ولكن ربما يكون الذي عقد الإتفاق هو يزيد كما يؤيد ذلك السياق الزمني، فالمعاهدة عقدت في آ خر
عهد قنسطنطين الذي عاش خمس سنين أكثر من معاوية.
وقد خلف يزيد عدداً من الأبناء والبنات، ومن بينهم خالد، الذي كان عالما وأول من درس الكيمياء
من العرب، كما كان شاع ا رً. وكان عبد الله ناسك اً. وكان أكبرهم معاوية، الذي تولى الخلافة بعد يزيد.
وعاتكة التي تزوجها عبد الملك بن مروان وانجبت منه يزيد. وكانت ولاية يزيد أربع سنين، فمات سنة
60 ه.
57The Byzantine Empire, Oman.
58 البلاذري.
42
كربلاء
عندما حضر الوليد بن عتبة بن ابي سفيان إلى المدينة لأخذ البيعة ليزيد بعد وفاة معاوية، غادر
الحسين المدينة إلى مكة، دون أن يعرض نفسه لحرج الرفض. فما لبث أن جاء عمرو بن سعيد والياً
على مكة والمدينة، فلما وصل مكة غادرها الحسين إلى الكوفة. وكان الحسين قد بعث مسلم بن عقيل
بن أبي طالب، إبن عمه، من مكة، ليأخذ له بيعة أهل الكوفة بعد وفاة معاوية وبعد وفاة أخيه الحسن
كذلك. فأخذ يدعو للحسين، حيث لاقى إستجابةً كبيرة فبايعه أكثر من ثمانية عشر ألفاً من أهلها 59 ،
فكتب أهل الكوفة بذلك كتباً يتعهدون بنصرة الحسين ضد بني أمية وأرسلوها للحسين في مكة مع
جماعة سماهم إبن كثير يحثونه على القدوم إليهم 60 . خرج الحسين يريد الكوفة بأهله وأقاربه وعددهم لا
يتعدى المائة. وكان بين تولي يزيد ووصول الحسين إلى الكوفة ما يقارب ستة أشهر، مكث منها أربعة
في مكة. تذكر الروايات أن الحسين، منذ خروجه من مكة لقي كثيرين على الطريق ولم يكن يكتم أمره
على الإطلاق، وكان ممن لقيهم الفرزدق الشاعر، الذي أجابه على سؤاله عمن و ا رءه بالكوفة بعبارة
أصبحت مشهورة قائلا : "قلوبهم معك وسيوفهم مع بني أمية" 61 .
وعندما بلغ يزيد ما يسعى إليه مسلم بن عقيل، أرسل عبيد الله بن زياد والياً على الكوفة بالإضافة
إلى البصرة، وهو إبن عم يزيد، حسب إدعاء معاوية وشهادة الشهود، إلا أن يزيد لم يكن يحبه، ولكن
أشار عليه به سرجون مولاه 62 ، وقد كان شاباً طموحاً نشأ في كنف زياد وتعلم في مدرسته. وكان
معاوية قد ربطه بيزيد منذ سنوات. فوصل عبيد الله الكوفة قبل وصول الحسين. وكانت الم ا رسلات
بين يزيد وعبيد الله منتظمة وكثيفة. فكتب له في إحدى الرسائل أنه "قد أُبتليت به )الحسين( من دون
الولاة وابتلي به زمنك من دون الأزمان، وبلدك من دون البلاد، فإما أن تقوم بهذا الأمر أو تعود عبداً
كما كنت" 63 . كما أرسل يزيد سرية تعترض طريق الحسين، فقبضوا على أحد رسله الموجهين إلى أهل
الكوفة 64 .
خرج مسلم بن عقيل يريد لقاء عبيد الله، عندما علم بوصوله إلى الكوفة، بمن بايعه من أهلها،
فجعلوا كلما إنتهوا إلى زقاق إنسل منهم جماعة، حتى بقي في شرذمةٍ قليلة. فجعل الناس يرشقونه
بالحجارة من فوق البيوت 65 . فلجأ إلى دار أحد وجهاء الكوفة يحتمي به.
59 البداية والنهاية.
60 البداية والنهاية.
61 الطبري.
62 البداية والنهاية.
63 العقد الفريد.
64 الكامل.
65 إبن كثير.
43
ولتسهيل فهم ذلك، يجب أن نعرف أن أهل الكوفة كان لهم م ا زج سياسي خاص، يتصف بالتقلب،
وأن هناك من كان يؤيد بني أمية فعلياً من بينهم، حيث تمكن بنو امية من خلق قاعدة لهم في الكوفة
منذ عام الجماعة. إن الذي حصل في ذلك اليوم يدل على حالة إستقطاب فريدة من نوعها.
إختبأ مسلم ولكن عبيد الله، الذي تبوأ مكانه بثقةٍ عاليةٍ في دار الإمارة، تمكن من إعتقاله واعدامه.
وقد حاول مسلم أن يرسل برسالة إلى الحسين يرجوه العدول عن ما أقدم عليه، والرجوع إلى مكة.
علم الحسين بما جرى وهو في نجد بطريقه إلى الكوفة، فهم بالرجوع، ولكن إص ا رر إخوة مسلم أن
يأتوا الكوفة للثأر لأخيهم، وكان عددهم خمسة، جعل الحسين يمضي في ما أقدم عليه.
فطلب عبيد الله بن زياد من عمر بن سعد بن أبي وقاص أن يقود سريةً للقاء الحسين وجماعته.
فلقيهم في كربلاء. فعرض عليهم الحسين أن يتركوه يعود أو ليذهب في بلاد الله حتى يرى الناس
أ ريهم 66 . فرفضوا عروضه وأصروا على إذلاله بأن يسلم لعبيد الله بن زياد، الأمر الذي لم يكن
مستساغاً للحسين، عند ذلك تحول قسمٌ من جيش عمر بن سعد إلى جماعة الحسين، وكان عددهم
ثلاثين. فبادر جنديٌ من جند عمر بقتل عبد الله بن الحسن بن علي، وكان فتىً صغي ا رً جميل الطلعة.
وفي رواية أخرى أن عمر بن سعد إطلق سهماً قائلاً " إشهدوا أني أول من رمى القوم " 67 فبدأ القتال،
حيث خاض الحسين وجماعته معركة غير متكافئة، إنتهت بقتله وبمجزرة، لا ت ا زل آثارها باقية، شكلت
وصمة في جبين الأمة. لقد ثار الحسين ضد إغتصاب السلطة، كما ثار ضد حاكم لا يملك مقومات
الحكم الشرعية، بإمكانيات قليلة جداً، فلم يركن لقلة الأنصار والإمكانيات.
ما تلى ذلك، نقل النساء والأطفال إلى دمشق. حيث تؤكد الروايات أن يزيد أحسن معاملتهم
وأرسلهم إلى المدينة، وأنه قال عند سماعه الخبر: "كنت أقنع من طاعتكم بدون قتل الحسين".
لقد بكت الكوفة الحسين في ذلك اليوم المشئوم، كما بكته الحجاز وبكته كذلك دمشق، فقد ذكر
الرواة أن فاطمة إبنة الحسين قالت ليزيد : "يا يزيد أبنات رسول الله سبايا ؟". فرد عليها قائلاً : "بل
ح ا رئر ك ا رم، أدخلي على بنات عمك تجديهن فعلن ما فعلن"، قالت فاطمة : "فدخلت إليهن، فما وجدت
فيهن سفيانية إلا متلدمة تبكي" 68 .
لقد خذلت الكوفة الحسين، كما خذلته البصرة، التي ا رسل أهلها وجاءه منها رجلٌ واحد وابنيه، كما
خذلته مكة والمدينة. لقد كان خروج الحسين عملية غايةً في البطء، مما أعطى من يريد المشاركة،
الفرصة الكافية.
66 البداية والنهاية.
67 البداية والنهاية.
68 . العقد الفريد ج 0
44
ثورة إبن ال بير
غادر عبد الله بن الزبير المدينة عندما طُلب منه مبايعة يزيد، وبنفس الوقت الذي غادر به الحسين
ولكنه سلك طريقاً آخر. وعندما علم بمغادرته الوليد بن عتبة والي يزيد على المدينة أرسل و ا رءه ثمانين
رجلاً فلم يدركوه. وفي مكة شجع الحسين على الذهاب إلى الع ا رق، وقد كان الوحيد الذي فعل ذلك.
ومكث في مكة دون أن يبايع يزيد ودون أن يدعو لنفسه، بينما يزيد مشغول بحركة الحسين. وعندما
ورد خب ا رستشهاد الحسين، قام وخطب بالناس فعظم مقتله وعرض بيزيد متهماً إياه بشرب الخمر. فدعاه
بعض أنصاره، وهم كثيرين، على إظهار بيعته، فبدأ بإعداد العدة لذلك. وقد كان والي بني أمية، عمرو
بن سعيد، لا ي ا زل في مكة، ولكنه لم يحاول منع إبن الزبير لكثرة مؤيديه. وبلغ ذلك يزيد فهيأ جيشاً
لمحاربته.
وفي هذه الأثناء ثارت المدينة ضد يزيد، فتشجع إبن الزبير ودعا لنفسه. فطلب يزيد من مسلم بن
عقبة المري أن يبدأ بالمدينة. ومن الواض أن إبن الزبير تردد طويلاً قبل إعلان ثورته، فهذه السمة
لازمته حتى النهاية، ففي سنة 62 ه حج الناس تحت ثلاثة ألوية ؛ لواء الأمويين وابن الزبير ونجدة
الخارجي. وهذا يدل أيضاً على تردد يزيد في مواجهة إبن الزبير الذي لم يبايع ولم يخالف. وهذا ربما
يُعزى للأثر النفسي الثقيل الذي تركته وقعة كربلاء.
وصل جيش مسلم بن عقبة إلى المدينة، فحاربه أهل المدينة بإمرة قائدين واحد من الأنصار والآخر
من قريش، وسرعان ما هزم الجيشين. فتقدم مسلم إلى مكة، فمات قبل أن يصلها، وكان مريضاً، حيث
قاد معركة الحرة )في المدينة( من على السرير. فدعا الحصين بن نمير وسلمه القيادة. فحارب
الحصين جيش مكة أياماً إلى أن وصل خبر وفاة يزيد. فصاح إبن الزبير بجيش الشام : "لم تحاربوننا
وقد مات طاغيتكم"، فطلب الحصين بن نمير لقاءه. فإقترح على عبد الله أن يبايعه ويسير معه إلى
الشام حيث يضمن له ولاء أهلها. ولكن إبن الزبير رفض العرض. فتركه الحصين غاضباً، وأمر
جيشه بالرحيل. وعند مروره بالمدينة إنضم إليه واليها ورجاله فخلت لإبن الزبير.
إختلف المؤرخون في قبول هذه الرواية. فموت الحاكم لا يعني موت القضية التي يحارب من
أجلها، والحاكم يخلفه حاكمٌ آخر. ولكي نقبل الرواية، علينا الإفت ا رض أن القتال توقف عندما بلغهم وفاة
خليفة يزيد دون أن يوصي، أي بلغهم موت سلالة وليس موت حاكم. والفرق كبير.
45
وفاة ي يد
توفي يزيد في سنة 60 عن عمر يناهز الثمانية والثلاثين، وكانت ولايته ثلاث سنين وتسعة أشهر.
وتولى الخلافة بعده إبنه معاوية بن ي يد وهو في الحادية والعشرين من عمره. وكان يزيد قد أخذ البيعة
له.
لم يمارس يزيد أي نشاط حربي مع الروم أو غيرهم طوال عهده، بل سحب قواته من رودس وارواد.
وقد أعطى هذا الفرصة لقسنطنطين ال ا ربع، الذي إستمر بحكم بيزنطة إلى ما بعد وفاة يزيد، الفرصة
لمحاربة البلغار، ولكن جيشه تلقى هزيمة منكرة على أيديهم. لقد إرتكب قنسطنطين فعلةً لا تقل شناعةً
عن فعلة يزيد، فقد شوه وجهي أخويه، الذين تُوجا معه، لكيلا يصلحا للحكم.
تولى معاوية الثاني الحكم مريضاً، وبقي كذلك إلى أن ت وفي بعد أربعين يوم اً. وقد رفض أن
يوصي لأحد، كما رفض أن يشكل مجلساً ليقوم بإختيار خليفة على طريقة عمر، كما إقترح عليه مروان
بن الحكم. وقد كان معاوية بن يزيد رجلاً صالحاً ناسك اً 69 .
فإنفرط عقد الدولة الإسلامية، حتى بايع أهل البصرة رجلاً يقال له ببة، حكم البصرة أربعة أشهر ثم
لزم بيته 70 . فكتب أهل البصرة لإبن الزبير فكتب إلى أنس بن مالك أن يصلي بالناس ففعل.
فبايع معظم أهل الشام عبد الله بن الزبير. ويقال بايع جميعهم ما عدا أهل الأردن. فولى إبن
الزبير الضحاك بن قيس الفهري على الشام، وقد كان أحد وجوه الشام وكان مستشا ا رً لمعاوية ويزيد
وصلى بالناس طوال فترة حكم معاوية الثاني القصيرة، وربما بعد ذلك. كما بايعت مصر إبن الزبير.
أما الع ا رق، فقد كان إبن الزبير قد أرسل إبنه والياً عليها ثم بعث اخاه مصعب، وقد كان يُعرف عن اهل
البصرة ميولهم الزبيرية منذ العهد ال ا رشدي.
دولة بني مروان
حصل عبد الله بن الزبير على كل هذه البيعة دون أن يجازف بمغادرة مكة، فكان يسمى العائذ.
وعندما حدث تحرك مناوئ له في الشام، لم يسجل حضو ا رً يؤثر في الأحداث الم ا رفقة لهذا التحرك،
فترك أهل الشام يقتتلون وجلس ينتظر النتائج.
فبعد أن أوشك الأمر أن يستقر لإبن الزبير، أخذ تيا ا رً مخالفاً في الظهور، يتكون من بني أمية
بزعامة مروان وروح بن زنباع، وهو من وجهاء الشام. ولكن كان ل ا زماً عليهم الإتفاق على قائد ليكون
مرشحاً للخلافة. فإستبعدوا عدداً من المرشحين من بينهم خالد بن يزيد بن معاوية لحداثة سنه، ثم إتفقوا
69 البداية والنهاية.
70 البداية والنهاية.
46
60 (. فنشبت حرباً طاحنة بين الطرفين، كانت فيها الغلبة للتيار الأموي، – على مروان بن الحكم ) 60
حيث سيطروا على الشام، ثم توجهوا بجيشهم إلى مصر فأخضعوها بيسر. وعاد مروان إلى دمشق
حيث مات خنقاً من قبل زوجته وجواريها. وكان مروان قد تزوج زوجة يزيد وأُم خالد بن يزيد لضمان
ولاء خالد، الذي كان منافسه الرئيس. فشكا خالد لأمه من أن مروان شتمه بقوله له " يا إبن رطبة
الإست"، وقد كانت هذه أخلاق مروان، فقد كان فحاشاً، فقتلته إنتقام اً.
06 ( مكان أبيه. وقد كان عبد الملك إنساناً فقيهاً ناسكاً ويلقب – تولى عبد الملك بن مروان ) 60
بحمامة المسجد، وولد وعاش معظم حياته في المدينة يتلقى العلوم الدينية على يدي فقهاءها.
حكام بني أمية وقرابتهم
فشرع عبد الملك بالإعداد لغزو الع ا رق ونزعها من إبن الزبير بعد أن إستتبت له الشام ومصر،
وذلك في سنة 61 ه. نج عبد الملك واستعاد الع ا رق بدون قتال، على الرغم من أن العوامل المؤاتية
لإنجاح هذه المهمة لم تكن ذات وزن. فقد حارب بأهل الشام، الذين كانوا منقسمين على أنفسهم إلى
عهدٍ قريب، وقد ظهر هذا بتردد أهل الشام في الخروج. كما ثار عليه عمرو بن سعيد بعد أن غادر
دمشق بقليل، حيث إضطر لل رجوع للتعامل معه، حيث إحتال عليه وقتله بيده. كما ثار عليه بعض
الموالين للروم في بلاد الشام، حيث تمكن من القضاء عليها. كما أن عبد الملك لم يكن يملك الخبرة
السياسية والعسكرية، فقد قضى عمره في المساجد. كما أن الع ا رق كان عليها مصعب بن الزبير، الذي
خاطبه عبد الملك نفسه بعد مقتله قائلا : "متى تلد قريش مثلك ؟". فقد كان سخياً شجاعاً جليلا .
47
وكان مصعب قد حج إلى مكة ومعه وجوه أهل الع ا رق وطلب من أخيه أن يكرمهم، وهو أمر كان
يتوقعه من يدخل على خليفة، ولكن عبد الله، الذي كان بخيلاً، رفض إعطائهم وقال أنه يفضل أهل
الشام عليهم. فعادوا غاضبين، فكاتبوا عبد الملك. فلما إلتقى الجيشان تحول الع ا رقيون إلى جيش
الشام، فقام أحد قواده بقتله وقطع أ رسه ووضعه بين يدي عبد الملك، الذي سجد لله شاك ا رً، فلم يأمل
بهذه النتائج في أفضل أحلامه تفائلا .
لقد كان مصعب متزوجاً من سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة. وعندما أ ا ردت سكينة مغادرة
الكوفة، أحاط بها بعض أهلها ا رجين أن تبقى بينهم، فقالت لهم : "لا ج ا زكم عني خي ا رً، ولا أخلف عليكم
بخير من أهل بلد، قتلتم أبي وجدي وعمي وزوجي، أيتمتموني صغيرة وأرملتموني كبيرة".
نجم في هذه الحرب الحجاج بن يوسف الثقفي. الذي كلفه عبد الملك بقيادة جيش للقضاء على
آخر معاقل عبد الله بن الزبير في مكة. فحاصر إبن الزبير في سنة 02 ه، حيث إستعمل المنجنيق،
ونصب ا رية الأمان فإنحاز عن إبن الزبير معظم أتباعه، ولكنه ظل يقاتل بعددٍ قليلٍ من المقاتلين حتى
قُتل، وقد كان تجاوز السبعين من العمر.
سواءاً في معركة الجمل عندما كان إبن خمسٍ وثلاثين، أو في مكة عندما تجاوز السبعين، كان
عبد الله بن الزبير أسي ا رً لطموحه الشديد. قال عبد الله بن عباس :".. ما زلت أخاف عليه منذ أ ريته
تعجبه بغلات معاوية الشهب". وكان معاوية قد حج فمر بالمدينة وخلفه خمس عشرة بغلة شهباء عليها
أحمال الأرجوان فيها الجواري عليهن الثياب المعصف ا رت ففتن الناس 71 .
إستقامت الأمور لعبد الملك بن مروان سنة 02 ، كما إستقامت لمعاوية سنة 08 . وفي الواقع كان
عبد الملك مؤسساً لسلالة جديدة، بني مروان، أما السفيانيين فقد تخلوا عن حقوقهم في الحكم، ولم
يحاول منهم أحد إستعادة سلطانهم المفقود، وهنا لا بد أن أضيف أن الطريقة التي تلاشى فيها سلطانهم
إعجازية إلى حدٍ كبير.
الدواوين والنقد
يُعد عبد الملك بن مروان المؤسس الفعلي لسلالة بني مروان التي حكمت لغاية العام 932 ه. كما
يمكن النظر إليه كمؤسس لدولة عربية. عربية اللغة وعربية النقود، فهو الذي عرب الدواوين وصك
عملة خاصة بالدولة. وهل توجد دولة ذات سيادة لا تملك عملتها الخاصة، وتستخدم بإدارة شؤونها لغة
غير لغتها، لقد كان هذا حال الدولة العربية في عهد ال ا رشدين والسفيانيين.
71 . العقد الفريد ج 0
48
فقد إستمر العرب بإستخدام العملات التي كانت سائدة في الأقاليم التي فتحوها. وهذا يعني
إستخدام أكثر من عملة، الأمر الذي يزيد من تعقيد الوضع المالي. فقد كان الدرهم الفارسي يستخدم
في الجناح الشرقي من الدولة بشكل أساسي، كما كان الدينار يستخدم على نطاق أوسع. لقد كان
إقتصاد الدولة يعتمد على العملة إعتماداً كبي ا رً، بينما كانت المجتمعات الجرمانية في معظم أوربا تعتمد
على التبادل، وكان دور العملة في ت ا رجع مضطرد في جميع أنحاء أوربا. ولذلك كانت الحاجة تظهر
لقطع نقدية أكثر بسبب ت ا زيد حجم التبادلات التجارية، وبالتالي فقد كانت الدولة " تستورد "
القطع النقدية من بيزنطة، وكان الروم يحصلون مقابل ذلك على محاصيل ز ا رعية بإمكانهم الحصول
عليها من مصادر أخرى، ولكنهم كانوا يحصلون أيضاً على ورق البردى، الذي كان يصنع في مصر،
وذلك قبل إكتشاف صناعة الورق، ولم يكن هناك مصدر آخر لهذه السلعة، وبديلها الآخر المتاح هو
الجلود، وهو بديل غير مري ومكلف. وعندما شرع صانعو الورق في مصر كتابة شعا ا رت إسلامية
على أعلى الورقة، مثل البسملة، أو "قل هو الله أحد"، إحتج البيزنطيون وهددوا بأن يضعوا على عملتهم
إشا ا رت تسيء إلى الإسلام والى النبي، علماً بأن جميع عملاتهم المصكوكة في تلك الفترة تحمل
شعا ا رت مسيحية. عندئذٍ صحت الأمة على أنها يمكن أن يكون لها عملتها الخاصة. فقام عبد الملك
بإستشارة خالد بن يزيد، فقال له : "حرم دنانيرهم وأضرب للناس سكة فيها أسم الله تعالى. فضرب
الدنانير والد ا رهم" 72 ، وكان ذلك في سنة 06 ه 73 .
صور لعملات معاصرة لعبد الملك بن مروان قد تكون آخر الدنانير البيزنطية التي تم
إستخدامها في أسواق الدولة الإموية
فبدأ الحجاج بصك الد ا رهم والدنانير. وقد كانت النقود في ذلك الزمان وزناً محدداً من الفضة أو
الذهب، فهي سلعة. وبالتالي فإن صك النق ود طور عملية ضبط الأو ا زن، وهذه قضية جديدة على
العرب أيضاً، فبدأ الإهتمام بها في عهد عبد الملك. وعلى الرغم من وجود محاولات سابقة لصك النقود
فقد كانت إضافات إلى الد ا رهم الفارسية المتداولة، فكانت العملات تظهر عليها عبارة " لا أله إلا الله "
72 البلاذري.
73 الطبري.
49
جنباً إلى جنب مع رسم النار المجوسية. أما عبد الملك فقد كان أول من صك النقود بالمعنى التقني
لعملية الصك. كما قام بتحريم التعامل بالدنانير البيزنطية، وأوقف تصدير ورق البردى لبعض
الوقت 74 .
كما تم تعريب الدواوين في عهد عبدالملك، فقد إستمرت الدواوين التي كانت تضبط الأ ا رضي
الز ا رعية وخ ا رجها تُكتب في اللغات التي كانت بها قبل الفت ، أي باليونانية في الشام ومصر وبالفارسية
في الع ا رق وفارس. وتروي بعض المصادر أن السبب يعود إلى أن عبد الملك بلغه أن أحد الكتاب بال
في الدواة عندما وجد أنها جفت 75 ، فإستاء أن تبقى هذه المهنة بيد غير المسلمين، فإستشار حاشيته
فأشاروا عليه بأن يكلف من يحول الدواوين إلى العربية، وفعلاً أمر سليمان بن سعد القيام بذلك، فطلب
من عبد الملك أن يرصد خ ا رج الأردن لسنة لهذا المجهود، الذي بلغ مائة وثمانين ألف دينار 76 .
النشاط الحربي
إنشغل عبد الملك بكثير من الحروب الداخلية لمعظم فترة حكمه. كما كان للقتال مع بيزنطة وغيرها
نصيب كبير من النشاط الحربي لجيوش عبد الملك، فبعد تسلم عبد الملك الحكم قام جستنيان الثاني
بإرسال ليونتيوس، الذي أصب إمب ا رطو ا رً فيما بعد، على أ رس جيش لإستعادة أرمينيا وجورجيا من العرب
في العام 60 ه ) 660 م(، فخاض حرباً في القفقاس مستخدماً أساليب قاسية جداً، مما أجبر عبد الملك
على الموافقة على دفع إتاوة لبيزنطة، من أجل التفرغ لمشاكله الداخلية. ولكن نفس القائد تلقى هزيمة
منكرة على أيدي العرب في معركة سيباستيبول في العام 03 ه ) 612 م(، وربما تكون هذه هي المعركة
التي يشير إليها إبن كثير في أحداث سنة 03 ه أن عثمان بين الوليد أوقع بالروم وقعة عظيمة من
ناحية ارمينيا 77 ، بعد أن تفرغ العرب من مشاكلهم الداخلية، فقام جستنيان بحبسه. ولكنه أطلق س ا رحه
بعد سنتين لمواجهة العرب الذين أرسلوا جيوشهم لمهاجمة الإمب ا رطورية، ولكنه قام بتنظيم ثورة ضد
جستنيان، حيث تمكن من عزله ونفيه. وكان سبب هذا الهجوم أن جستنيان لم يرق له أن تكون العملة
التي تسلم بها الإتاوة، عملة عربية، فإتخذ ق ا رر الحرب، حيث إنحاز الجنود البلغار إلى جانب المسلمين
في معركة سباستيبول، حيث تم تدمير الجيش البيزنطي 78 .
74 البلاذري.
75 البلاذري.
76 البلاذري.
77 البداية والنهاية
78 The Byzantine Empire , C. Oman.
50
فتح ق رطاجة
وتم في عهد عبد الملك فت قرطاجة، التي حاول البيزنطيون إستعادتها ولكنهم فشلوا. فقد جهز
عبد الملك جيشاً ضخماً وأرسله إلى إفريقيا بقيادة حسان بن النعمان في سنة 00 ه ) 610 م(. فقام
حسان بفتحها، بالإضافة إلى مدن أخرى 79 . وكانت قرطاجة عاصمة مقاطعة بيزنطية هامة، بناها
الفينيقيون وهدمها الرومان، واضطروا لبناءها من جديد، عندما إمتلأ ميناء المدينة البديلة، يوتيكا، التي
بنوها بالطمي لقربها من مصب نهر المجردة. وكان الوندال قد سيطروا عليها وجعلوها عاصمتهم، ثم
إستعادها البيزنطيون في القرن السادس وفقدوها إلى الأبد حين فتحها حسان بن النعمان. وقد خسرت
بيزنطة بذلك مصد ا رً مهماً للحبوب ومرك ا زً تجارياً مهماً وقاعدة بحرية كان لها دو ا رً كبي ا رً في تعزيز
الوجود البيزنطي في غرب المتوسط. وكان العرب قد بنوا القيروان قبل هذا التاريخ بربع قرن، ولم
يستغنوا عنها بفت قرطاجة، وبالتالي فقدت أهميتها، ولم يبقى منها غير بعض الآثار الرومانية.
ففي سنة 08 ه ) 618 م( أرسل الروم حملة على سوريا، مما جعل عبد الملك يصالحهم على دفع
إتاوة ألف دينار أسبوعيا 80 .
وكان عبد الملك قد قاد جيشاً بنفسه ضد الروم في سنة 09 ه، قبل أن تستتب الأمور تمام اً له، غ ا ز
به الأناضول وفت قيسارية 81 . وبعد عودته نظم الشواتي والصوائف.
وفي العام 02 ه فت عبد الملك قيساريا 82 . ولعلها مدينة قيساريا الجديدة، فمدينة قيسارية في
فلسطين تم فتحها في زمن عمر.
وفي رواية أخرى أن الإمب ا رطور البيزنطي جستنيان الثاني، الذي عُرف بتهو ره، أعلن الحرب عندما
أرسل له عبد الملك الإتاوة بدنانير ذهبية عربية تحمل آيات قرآنية في سنة 612 م ) 92 ه(. ولكنه
خسر المواجهة بسبب تحول جنود بلغار كان قد أسرهم في العام السابق في حربه مع البلغار وضمهم
قس ا رً إلى إحدى القطعات العسكرية البيزنطية في الأناضول، إلى جانب المسلمين 83 .
وفي العام 00 ه غ ا ز محمد بن مروان بلاد الروم، رداً على هجوم روماني من ناحية مرعش.
وفي سنة 00 ه غ ا ز محمد بن مروان الروم من ناحية ملطية، كماغ ا ز الوليد بن عبد الملك على الصائفة.
وفي العام 00 أصاب الشام الطاعون، فلم يغزو الروم، ولكن ال روم غزوا أنطاكية 84 .
79 الكامل.
80 الكامل.
البلاذري. 81
82 الواقدي.
83 The Byzantine Empire. Oman.
84 الكامل.
51
قام تيبيريوس الثالث، الذي ثار على ليونتيوس وأرسله إلى أحد الأديرة، بمهاجمة بلاد الشام في سنة
09 ه ) 089 م( حيث حقق بعض المكاسب، وفي سنة 03 هاجم العرب كيليكيا في زمن جستنيان
الثاني.
088 م( قاد عبيد الله بن عبد الملك جيشاً إلى قاليقلا )كيليكيا( وفتحها. ( وفي سنة 09
في السنوات الواقعة بين 00 و 09 ، لم يسجل المؤرخون نشاطاً عسكرياً على جبهة الأناضول، فقد
يعزى ذلك إلى طاعون الشام ولإنشغال الدولة البيزنطية في مشاكل داخلية.
في سنة 03 ه فت عبد الله بن عبد الملك مدينة طرندة وأسكنها بعض المسلمين. وفي سنة 00 غ ا ز
عبد الله بن عبد الملك الروم وفت المصيصة، وكانت المرة الأولى التي يفتحها المسلمون، وبنى فيها
حصناً ووضع فيها ثلاثمائة مقاتل، كما بنى فيها مسجد اً. وفي سنة 06 ه غ ا ز محمد بن مروان ارمينية
فأمضى الصيف والشتاء فيها 85 .
توفي عبد الملك في هذه السنة، وكان عمره ستين سنة، وحكم ثلاثة عشر سنة منذ إستتب له الأمر
بنهاية دولة إبن الزبير. وقد إنشغل عبد الملك في أُمورٍ كثيرةٍ أُخرى لا تقل جسامة عن ما سردنا، فقد
خاضت جيوشه حروباً كثيرة مع الخوارج. كما ثار عليه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، إستغرق
القضاء عليه أكثر من ثلاث سنوات. وقد ترك هذا أثره على العلاقات العسكرية مع بيزنطة. لقد كان
عبد الملك حاكماً حازماً يعمد إلى إستشارة جلساءه ومستشاريه. وقد إعتمد في حكمه على ولاته، ومن
بينهم الحجاج وعبد العزيز أخوه، لقد كان الحجاج يدير ما لا يقل عن 08 % من أ ا رضي الدولة، وقد
أشتهر بج أ رته على القتل، كما كان شديد الإخلاص لعبد الملك )ولإبنه الوليد من بعده(، كما كان عبد
الملك يكن له الإحت ا رم، وأوصى عليه أولاده. ولكنه كان يوبخه بقسوة بالغة عندما يبالغ في تعامله مع
الناس.
وقبل أن يموت أوصى لولديه الوليد وسليمان وأخذ البيعة لهما. وقد قال للوليد موصي اً: "إذا مت
فضعني في قبري ولا تعصر علي عينيك عصر الأمة، ولكن شمر وائتزر، والبس جلد النمر، فمن قال
ب أ رسه كذا، فقل بسيفك كذا " 86 أي أقتل كل من خالفك. لقد أحسن عبد الملك تربية أبناءه من خلال
الوصايا والدروس العملية والمشاركة، فكان حكمهم إستم ا ر ا رً لحكمه.
16 (، فقد بقي الولاة والقادة العسكريين - لم يتغير الوضع كثي ا رً في عهد الوليد بن عبد الملك ) 06
في مواقعهم، وأصبحت الأوضاع السياسية أكثر إستق ا ر ا رً، فقلت الفتن، ونشطت الفتوحات وتحققت
85 الكامل.
86 . العقد الفريد ج 0
52
إنجا ا زت عظيمة. من بينها فت الأندلس والسند ومناطق واسعة في آسيا الصغرى. وكان عمره 36
سنة عند توليه الحكم. وكان تقياً مستقيماً، كما كان حازم اً.
لقد توفرت في عهده إي ا ردات كبيرة مكنته من الشروع في مشاريع إنشائية كبيرة عديدة. فقد بنى
المسجد الأموي، ووسع المسجد النبوي، وبنى الطرق والجسور وحف ا رلآبار، وشجع الناس على البناء.
وقد أرسل إلى الولاة لصيانة الطرق والابار 87 للتسهيل على المسافرين. كما إعتنى بالمرضى فبنى
المستشفيات ورتب خدماً للمقعدين والعميان 88 . كما خصص مرتبات للمجذومين ومنعهم من الخروج
إلى الناس 89 .
وكان يشجع العلم، ومما يروى عنه أنه كان يمتحن الذين يفدون عليه طلباً للمساعده بق ا رءة القرآن،
فيساعد الذين يق أ رونه، ويطلب المساعدة للذين لا يتقنون الق ا رءة.
كما غ ا ز محمد بن مروان سنة 06 ه ارمينيا وصاف وشتى بها.
وفي سنة 00 ه غ ا ز مسلمة بن عبد الملك بلاد الروم، فإلتقى بهم بالقرب من المصيصة 90 .
وأضاف الواقدي أن قائد الروم كان ميمون الجرجماني. ويبدو أن هشام بن عبد الملك كان على جيشٍ
آخر والتقى بقوات من العرب تعمل تحت إمرة الروم، فقتل منهم الكثير 91 .
وفي سنة 00 ه وجه الوليد جيشين بقيادة مسلمة وابنه العباس إلى بلاد الروم. وكان قد طلب من
صاحب ارمينية أن يكتب لإمب ا رطور الروم أن خاقان الخزر يستعد لغزو بلاده. فتوغل الجيشان في
أرض الروم، وواجه العباس بعض الصعوبات إلا أنه إستطاع تجاوزها وعاد بجيشه متماسكاً، بعد أن
فت حصن طوانة.
وفي العام التالي 01 ه كرر مسلمة والعباس توغلهما في بلاد الروم. ففت مسلمة سورية، وفت
العباس أذرولية. وسورية هذه مدينة في جنوب الأناضول، يسميها الروم إيسوريا، وهي مسقط أ رس
الإمب ا رطور البيزنطي ليو الثالث الإيسوري، الذي تم في عهده حصار القسطنطينية الثاني.
وفي سنتي 18 و 19 غ ا ز مسلمة والعباس ارض الروم، ففت مسلمة خمسة حصون وفت العباس
أرزن. وفي سنة 18 وقع خالد بن كيسان صاحب البحر في أسر الروم فأهداه جستنيان الثاني إلى
الوليد.
87 الطبري.
88 الكامل
89 الطبري.
90 الطبري.
91 الطبري.
53
وفي سنة 12 غ ا ز مسلمة وعبد العزيز الصائفة، حيث لم يلاقي مقاومة شديدة فقد كانت بيزنطة
مشغولة بالدفاع عن أسوارها من هجوم البلغار. وفيها بدأ فت الأندلس وفت جزر في غرب البحر
المتوسط.
وفي سنوات 13 و 10 و 10 فت العباس بن الوليد هرقلة وقنسرين وسمسطية وانطاكية وغيرها.
كما غ ا ز فيها مسلمة و عبد العزيز بن الوليد والوليد بن هشام بن ابي معيط. وكان ذلك في زمن
أنستاسيوس الثاني، الذي أرسل سف ا رء إلى دمشق لعقد معاهدة سلام ولكن المفاوضات لم تسفر عن
إتفاق، فإتجه أنستاسيوس إلى بناء الأسطول البيزنطي وتقويته، وفي سنة 16 غ ا ز بشر بن الوليد
الشاتية، وعند عودته كان الوليد قد مات.
فتح الندلس
لقد إستغرق فت الشمال الإفريقي، من حدود مصر الغربية إلى سواحل المحيط الأطلسي، ما يقارب
من نصف قرن، ففي العام 02 إنتدب عمرو بن العاص عقبة بن نافع ليقود جيش لفت ليبيا وتونس.
وكان قد سبقه في زمن عثمان عبد الله بن أبي السرح حيث توغل في الأ ا رضي الليبية على طول
الساحل وأوقع بهم وعاد بعد أن صالحوه على مال 92 . وكان عبد الله بن أبي السرح قد مرر معلومات
إلى الخليفة عثمان عن الأندلس، وأنها تشكل مم ا رً برياً إلى القسطنطينية. ومن المعروف أن عثمان
كان قد تحدث عن إمكانية فت القسطنطينية من الغرب من خلال زحف بري عليها. ويبدو هذا أم ا رً
مستغرباً، لعدم معرفة العرب بتفاصيل جغ ا رفية أوربا، ولكن المعلومات وصلت من إبن أبي السرح الذي
قد يكون سمع بها من بعض اليهود في مصر الذين ربما كانوا لاجئين من إسبانيا، هرباً من التنصير
القسري الذي فرضه عليهم الحكام القوط بعد تحولهم إلى الكاثوليكية قبل عقود قليلة.
فقد كان حكام إسبانيا القوط على مذهب آريوس، ثم تحولوا إلى الكاثوليكية، التي كانت قد تبنت
قانون ثيودوسيوس الثاني Code of Theodosius II سنة 030 م، والذي بموجبه يتوجب على مواطني
الدولة الرومانية أن يكونوا مسيحيين، أي على ديانة واحدة. وفي مجمع طليطلة الديني الثالث للعام
001 م، تم تبني ق ا ر ا رت ضد اليهود، الأقلية الدينية الوحيدة في إسبانيا. وهكذا بدأ إضطهاد يهود أوربا
في إسبانيا. ثم توالت المجامع الدينية حتى المجمع الثاني عشر لسنة 609 م 08 ه( الذي فرض عليهم (
التنصر. فتنصر البعض، أو تظاهر، وهاجر البعض إلى مدن العالم الإسلامي. ولذلك لا غ ا ربة أن
يكون أول من زين فت الأندلس للمسلمين كان من اليهود.
92 البلاذري.
54
ثم تمكن عقبة بن نافع من فت تونس سنة 08 ، حيث بنى فيها القيروان، لتكون قاعدة للجيوش
الإسلامية. وفي زمن عبد الملك تم فت قرطاجة. ولكنها لم تلغي دور القيروان، التي إستمرت بلعب
دور عسكري وديني وثقافي وتجاري لزمنٍ طويل، ولم تستعد قرطاجة دورها نهائي اً. وقد سهلت القيروان
فت بقية الشمال الإفريقي. وقد تم بناء دا ا رً لصناعة السفن الحربية في القيروان.
وفي سنة 01 ه تولى موسى بن نصير ولاية إفريقية. فإتجهت أنظاره لفت الأندلس. فباشر بإرسال
إبنه عبد الله لفت جزر الباليار، ميوركة ومنوركة وغيرها. واخذ يتشاور مع الخليفة الوليد بن عبد الملك
في العبور إلى الأندلس وفتحها، الذي أوصاه بالحذر.
وكانت الأندلس تحت حكم القوط الغربيين، الذين كانوا أيضاً يحكمون مدينة سبتة، في البر
المغربي. وكانت إسبانيا في العام 19 ه ) 098 م( قد هزتها أزمة سياسية، إذ قام لذريق )روديرك(
بإغتصاب السلطة بقتل غيطشة )ويتي ا ز - Witiza ( الملك، وقد عارض ذلك أمير سبتة، الكونت
يوليان والذي لجأت إليه عائلة الملك. فقام بالإتصال بوالي طنجة المجاورة طارق بن زياد وشجعه على
غزو إسبانيا. الذي أخبر الوالي موسى، الذي كان في الغالب قد بدأ التشاور مع الخليفة حول هذا
الموضوع.
وفي رواية اخرى أن موسى فت طنجة سنة 01 ه، ثم فت سبته، حيث توصل اميرها يوليان إلى
صفقة حقق بموجبها مكسباً مثل الحفاظ على أمواله، وربما ممتلكات عائلة الملك المخلوع التي كانت في
ضيافته. وفي مقابل ذلك يقدم تسهيلات للمسلمين في فت الأندلس، من نقل ومعل ومات وربما إستطلاع
وغير ذلك. وهذا مأخوذ عن البلاذري نقلاً عن الواقدي، الذي يشير إلى ذلك بإختصار، حيث يقول أن
طارق غ ا ز الأندلس "فلقيه أليان، وهو والي على مجاز )مضيق( الأندلس، فآمنه طارق على أن يحمله
وأصحابه إلى الأندلس" 93 . فحسب الروايات غير المقنعة، فإن يوليان كان حليفاً، فإذا كان كذلك فما
الذي حصل عليه ؟. واذا لم تفت سبتة في حينه فمن الذي فتحها ومتى؟.
93 فتوح البلدان، البلاذري.
55
خارطة مسار فتوحات الأندلس
وفعلاً قام موسى وطارق بإرسال سرية إستطلاع بقيادة طريف بن مالك في رمضان 19 ه مكونة
من خمسمائة جندي. وبعد ذلك بعشرة أشهر عبر طارق المضيق، الذي حمل إسمه، على أ رس جيش
من سبعة آلاف مقاتل معظمهم من المسلمين البربر. وقد تم نقل الجنود بأربع سفن، حيث إضطرت
إلى التنقل بين الساحلين عدة م ا رت 94 .
ألتقى طارق مع جيش محلي بقيادة تدمير، فخاض الجيشان حرباً لثلاثة أيام، إنتصر فيها
المسلمون. وكان تدمير قد كتب إلى لذريق عن جيش طارق، فأخذ يعد العدة لمواجهة هذا الخطر
الداهم. كما كتب طارق إلى موسى يطلب منه مدداً، فأمده بخمسة آلاف مقاتل.
إلتقى الجيشان قبيل عيد الفطر فيما عرف بمعركة برباط Guadalete ، واقتتلا لمدة ثمانية أيام.
إنهزم الإسبان، وقتل الملك القوطي، وانتهى بذلك وجودهم السياسي في إسبانيا وكل أوربا.
94 الأندلس من نفح الطيب، د عدنان درويش ومحمد المصري.
56
ولكن الحرب في أوربا الإقطاعية لم تكن لتنتهي بمقتل الملك وتحطم جيشه. فكل دوق وكل كونت
يملك جيش اً. ولذلك إستمر فت إسبانيا أربع سنوات، تولى فيها ملكان قوطيان الحكم ؛ الأول إبن ويتي ا ز
واسمه أجيلاُ ،وحكم ملكاً آخر إسمه أردو لغاية 090 م.
11 ( الخلافة بعد وفاة أخيه. وكان عمره سبعاً وثلاثين عام اً. - تسلم سليمان بن عبد الملك ) 16
وقد كان عبد الملك قد أوصى وأخذ البيعة له. وقد كان وسيماً يحب التأنق، كما كان يحب الطعام، فقد
كان نهم اً. ويؤخذ عليه حمله على ولاة الوليد، والذين قدموا خدمات جليلة للدولة كقادة عسكريين
وكحكام إداريين. مثل موسى بن نصير، الذي كان والي إفريقيا والأندلس وقائد فتوحاتها ومسلم بن
يزيد، الذي كان نائباً للحجاج ووالياً للع ا رق، وقتيبة بن مسلم والي خ ا رسان وقائد الجبهة الشرقية، الذي
عزله وأعاده. وخالد بن عبد الله القسري والي المدينة وعبد العزيز بن موسى بن نصير الذي أرسل له
من قتله 95 . ومحمد بن القاسم فات السند. ولو كان الحجاج حي لعامله بالمثل، ولكنه مات قبل أن
يتولى سليمان بسنة.
وكان في عهده حملة مسلمة بن عبد الملك على القسطنطينية وحصا رها. وكان سليمان قد عهد
لإبنه أيوب، ولكنه مات في حياته، فعهد إلى إبن عمه عمر بن عبد العزيز، ومن بعده لأخيه يزيد.
وهكذا اخذ فرع عبد العزيز فرصته في زمن عمر، التي لم يأخذها في زمن أبيه الذي كان مروان قد
أوصى له بعد عبد الملك.
حصار القسطنطينية الثاني
قاد مسلمة بن عبد الملك جيشاً كثيفاً بإتجاه القسطنطينية في سنة 10 ه الموافق لسنة 090 م
وذلك في عهد ليو الإيسوري. وكان سليمان قد بدأ بالإعداد لهذه الحملة فور تسلمه الخلافة، بل يقال
إن الإعداد بدأ في زمن الوليد مستغلاً الأوضاع المتدهورة في الإمب ا رطورية البيزنطية. وكان ليو الثالث
قد تسلم الحكم بنفس السنة عندما نج في عزل ثيودوسيوس الثالث، وقد كان قائداً عسكرياً لجبهة
الأناضول، فهو من مواليد مرعش، المدينة الواقعة على حدود الشام. وكانت عائلته قد أُعيد توطينها
في ت ا رقيا من قبل الدولة الرومانية، كما كان نهج الد ولة في ذلك الزمان.
95 الكامل
57
سار سليمان إلى دابق ومعه مسلمة، حيث أخذا يعدان الجيش للحملة. وجاءه خب ا رً أن "ملك الروم
قد مات" 96 ، أخبره بذلك ليون ملك أذربيجان، وسهل له إمكانية النصر على بيزنطة. والمقصود هنا
الإمب ا رطور ثيودوسيوس الثالث الذي تم عزله مؤخ ا رً.
فسار الجيش، الذي يقدر بثمانين ألفاً، إلى أن وصل إلى القسطنطينية، ومعه ليون الأذري، وكان
مزوداً بكميات كبيرة من التموين. ومع هذا شرع ببناء بيوت من خشب، وبز ا رعة الأرض. فمكثوا طوال
الصيف والشتاء. وكان الحصار قد بدأ في شهر آب من العام 090 ، وكان برياً وبحرياً، حيث ا رفق
الحملة أسطولاً إنطلق من سوريا.
وقد عرض الروم دفع دينا ا رً عن كل شخص فرفض مسلمة، حيث كانت القسطنطينية في أسوأ
أحوالها لتحمل حصار طويل، فقد خرجت لتوها من حرب أهلية دامت عشر سنين، الأمر الذي إنعكس
على الوضع المالي للدولة والمعنوي لجماهير المدينة وانقسام في الأوساط العسكرية والكنسية والسياسية.
إنتهى الحصار بعد 92 شهر، أي في آب 090 . ويعزى ذلك إلى روايتين مختلفتين تمام اً.
فالمصادر الرومانية تعزو ذلك إلى صمود عاصمتهم ومساعدة البلغار لهم والى إستخدام النار
الإغريقية. وهو سلاح كيماوي يقذف من فوق الأسوار بأنابيب من البرونز.
أما المصادر العربية فتعزو ذلك إلى خيانة ليون، الذي إتصل به الرومان وقدموا له عرضاً مقابل
التحول إلى جانبهم، فقام بتوجيه نصيحة إلى مسلمة بأن يحرق التموين، ففعل مما أدى إلى جوع شديد
في صفوف الجيش 97 . وهذه رواية يصعب تصديقها، وتدل على غباء مسلمة على عكس ما أُشتهر به
من حصافة وذكاء. وهذا الرواية يوردها إبن الأثير في الكامل، كما يذكر أن مسلمة فت مدينة
للصقالبة في أحداث سنة 10 وكأنه حادثٌ منفصل. والصقالبة هنا هم البلغار، وكان المؤرخون العرب
يسمون البلغار البرجان احياناً، وهم شعب إمتزج بالسلاف )الصقالبة( لدرجة أنه أصب يعد شعباً سلافياً
خلال القرون الثلاث التالية، على الرغم من أصوله الآسيوية.
أما رواية الطبري فهي تعتمد على خدعة قام بها إليون الأرمني. وأنه كان يفاوضهم بإسم الروم،
حيث عرض عليه الروم عرش بلادهم إن خلصهم من العرب المحاصرين لمدينتهم. ثم جاءهم ليخبرهم
أن الملك قد مات ولسببٍ ما يجب عليهم التخلص من مخزونهم من الطعام، الذي يعلم الطرفين أنه قوام
صمودهم 98 ..
والحقيقة أنه تولى الحكم ليو )وليس ليون او إليون(، وهو فعلاً أرمني، ولكنه جن ا رل بيزنطي، وقد
تسلم الحكم قبل وصول الجيش العربي بأشهر.
96 الكامل.
97 الكامل.
98 الطبري.
58
خارطة تظهر حدود الدولة البيزنطية في عام حصار القسطنطينية عام 717 م، حيث يظهر
إنكماش ممتلكاتها في أوربا، الأمر الذي يرفع من إحتمال نزول الجيش في الممتلكات
البلغارية، من أجل إطباق الحصار حول القسطنطينية، مما إستعدى البلغار.
وقد أصب ليو، بنظر الروم، البطل الذي قاد مدينتهم المحاصرة ونج في تعزيز صمودها. لقد
رُفع الحصار بق ا ررٍ من عمر بن العزيز، وكان بإمكانه إرسال مدد وطعام، واستم ا رر الحصار حتى
فتحها، فالتكتيك الذي بدأ به مسلمة كان من المفروض أن يأتي بنتائج. ولو فتحت القسطنطينية في
تلك السنة، لربما أمكن تجنب الحروب الصليبية، ولأمكن توفير كل تلك الخسائر البشرية التي خسرتها
أط ا رفها جميع اً.
عاد مسلمة بجيشه وكان سليمان قد مات وتسلم الخلافة عمر. وقد ذكر إبن الأثير أن عمر أرسل
له مؤناً وخيلاً وطلب منه العودة 99 . وهذا غير مستغرب من عمر فقد كان يفكر بإخلاء الأندلس كذلك.
لقد أثبتت القسطنطينية في القرون التالية أنها كانت أهلاً للإستهداف من قبل المسلمين، عندما
تحولت إلى محرضاً للصليبيين وقاعدة لهم. فالرواية عن حرق الاغذية سخيفة، وكان التكتيك المتبع
ذكياً للغاية، وهو العبور إلى البر الأوربي وبناء مساكن وز ا رعة الأرض، فهذا له وقعه السلبي على
الخصم، وقد يكون هذا هو السبب الذي إستفز البلغار وجعلهم يحاربون بجانب عدوهم التقليدي. واذا
كان البلغار قد عقدوا صفقة مع الروم، فلم يحصلوا على شيء أذ أن القتال تجدد بينهم وبين الروم في
العام 028 م. كما يتي هذا النهج الذي إنتهجه مسلمة الإقامة الطويلة للمحاصرين. كان من
99 الكامل.
59
المفروض من عمر أن يرسل قوات أخرى لتحل محل القوات المحاصرة بحيث يستمر الحصار إلى أن
يتم الفت . كما كان من المفروض مفاوضة البلغار، الذين دخلوا البلقان أثناء الحصار الأول قبل ثلاثين
سنة وكانوا في حالة عداء مزمن مع بيزنطة، وكانوا يسيطرون على معظم البلقان )أنظر الخريطة
المرفقة( ولم يكونوا قد دخلوا المسيحية بعد. لقد كان لهم الدور الحاسم في إفشال الحصار لدرجة أنه
أُطلق على ملكهم لقب منقذ أوربا.
لقد كان للمناخ أث ا رً كبي ا رً على نتائج الحصار. فعندما حل شتاء ذلك العام بعد أشهر قليلة من
وصول الجيش إلى محيط المدينة المحاصرة، كان وقعه ثقيلاً على الجنود القادمين من أقاليم أكثر دفئاً،
وقد إنتشرت الدزنطاريا بين الجنود، فمات عددٌ كبيرٌ منهم.
989 ( الخلافة وهو إبن ثمانية وثلاثين سنة. وقد أُشتهر بسيرته - تولى عمر بن عبد الع ي ) 11
الحميدة التي تشبه سيرة عمر بن الخطاب. فقد كان حريصاً على تطبيق العدالة، كما كان ا زهداً في
الحكم، وكان ذلك يظهر على نمط معيشته، فقد كانت بسيطة، وقد كان يلقى دعماً من أبناءه وزوجته،
أما المروانيون فقد كانوا إعتادوا منذ جيلين أن يكونوا أقارب الخليفة الذي طالما منحهم ما لا يستحقون
شرعاً، كما كانت لهم المناصب، ولذلك لم يرق لهم ذلك كثي ا رً. فقد قال لهم " أدوا ما في أيديكم من
حقوق الناس " فرد عليه أحدهم بعد تردد أنهم لن يفعلوا ذلك، فقال لولا خوفي من الفتنة لأجبرتكم على
ذلك، " ولئن أبقاني الله لأردن إلى ذي كل ذي حقٍ حقه ".
جاء عمر بن عبد العزيز ليحكم مثل عمر بن الخطاب، الذي حكم دون أن ينتمي لعائلة حاكمة أو
طبقة حاكمة أو حزباً حاكم اً. ولهذا يعتقد بعض المؤرخين أن عمر مات مسموماً من قبل المروانيين.
وأعتقد إن لم يكن هذا صحيحاً، فإنه كان حتماً سيحدث لو طال العمر بعمر. لقد أوشك عمر أن
يقضي على حركة الخوارج بالحوار الهادئ البسيط، وأيضاً بالمثل الصال ، فكانوا على وشك التخلي عن
خارجيتهم إقتناعاً منهم بصلاحه. كما كان يفكر بتجريد بني أمية من أموالهم. لقد كان لعمر مذهب
خاص في الإصلاح. فقد أجاب إبنه الذي سأله عما يمنعه من إقامة الحدود والحكم بحذافير الشريعة
قائلاً أن الله لعن الخمر مرتين وحرمها في الثالثة. حيث يجب إتباع نهج تدريجي لكيلا يخلق رد فعل
يؤدي إلى الإخفاق.
لقد ترك عمر تركة أعطت نموذجاً لمن تلاه من الخلفاء والحكام، فينما كان الخلفاء ال ا رشدون أسوة
عظيمة، فلم يكن متوقع منهم غير ذلك لقرب عهدهم من النبي. ولكن عمر الذي كان منعماً في شبابه،
والذي خط لنفسه سياسة لم يخرج عنها طوال حياته، كان حالة خاصة جد اً.
الحكام المعاصرين لخلفاء بني أمية
60
الفاتيكان البلغار الخزر الأرمن
الفرنج)رؤساء
البلاط( البيزنطيين الأمويين ميلادي هجري
فاتاليان إربيس جريجور ارنولف قنسطانز معاوية 661 40 663 42 665 44 667 46 مزيزيوس 669 48 قنسطنطين 4 670 50 أديوداتوس 2 672 52 دونوس 674 54 676 56 أجاثو 678 58 أسباروخ ببين 2 يزيد الأول 680 60 ليو 2 682 62 بنيديكت الثاني أشوت بجرتوني معاوية 684 64 جون الثاني جستنيان 2 عبد الملك 686 66 كونون 688 68 سيرجيوس 1 نيرسيه 690 70 692 72 سامباط 2 694 74 تيرفيل ليونتيوس 696 76 698 78 تيبيريوس 700 80 جون السادس 702 82 703 84 جون السابع جستنيان 2 705 86 707 88 سيسينيوس بوسير الوليد 709 90 قونستانطين 711 92 فيليبكوس 713 94 كورميسيج سليمان 715 96 حكم الامويين ليو الإيسوري 717 98 عمر 719 100 سيفار بارجيك يزيد الثاني 721 102 723 104 شارل مارتل 725 106 أشوت بجرتوني 731 112 جريجوري 2 بيهار هشام 733 114 735 116 الخلافة 736 118 738 120 ببي 3القصير 740 122 زاكاري قسطنطين 5 وليد 742 124 جريجور 744 126 أشوت بجرتوني مروان 746 128 748 130 جريجور 750 132
61
لقد كان عمر يرسل الكثير من الكتب إلى ولاته تضمن توجيهاته بمناسبات مختلفه، كما كان يكتب
إليهم موجهاً، مثل رده على أحد ولاته الذي إستأذن أن يبني مدينة " نق طرقها بالعدل ". كما كان
يشجع ولاته على المبادرة وعدم إكثار السؤال عن التفاصيل لتعليماته. وكتب إلى يزيد بن المهلب والي
خ ا رسان :" لا تهدموا كنيسة ولا بيعة ولا بيت نار صولحتم عليه، ولا تحدثن كنيسة ولا بيت نار ". كما
كان قد كتب إلى يزيد بن المهلب يطلب بيعته فبايعه، وربما كان ذلك سبباً في تأجيل ثورة إبن المهلب
إلى ما بعد عمر. وكان حريصاً على حقوق المسلمين من غير العرب، حيث كان بعض الولاة، من
أصحاب العصبية، لا يسلكون مسلكاً مقبولا .
مات عمر في حمص، ودفن في دير شمعان، وقد إشترى موضع قبره من الدير قبل أن يموت. لم
يترك عمر ثروة، وقد دخل عليه مسلمة بن عبد الملك فقال له إنك لم تترك لأولادك شيئاً، وكان عددهم
إثني عشر غلاماً، فدعاهم وقال لهم ".. ميلت أ ريي بين أن تفتقروا في الدنيا وبين أن يدخل أبوكم النار،
فكان أن تفتقروا إلى آخر الدهر خي ا رً من دخول أبيكم يوماً واحداً في النار، قوموا يا بني عصمكم الله
ورزقكم ". فما إحتاج أحد من أولاد عمر ولا إفتقر.
النشاط الحربي
في سنة 10 ه إستعمل إبنه داود على الصائفة. وغ ا ز مسلمة أرض الوضاحية. وغ ا ز عمر بن
هبيرة أرض الروم بح ا رً وشتى فيها 100 .
وفي سنة 10 ه كان حصار القسطنطينية بقيادة مسلمة بن عبد الملك. وقد تمكن في هذه السنة
عبد الله البطال من أسر قنسطنطين إبن الإمب ا رطور ليو الثالث، الذي قام سليمان بإعادته لأبيه سالماً،
وهو الذي أصب إمب ا رطو ا رً تحت إسم قسطنطين الخامس. وكان زوج أخته قد ثار عليه عندما كان
متوجهاً لحرب العرب في الأناضول سنة 923 ه، فلجأ مع جيشه إلى عمورية ومكث بها بعض الوقت
إلى أن تمكن من الزحف على القسطنطينية واستعادة عرشه. ولا يستبعد أن يكون جرى بينه وبين
الخليفة إتصال في هذه الفترة.
وفي سنة 11 غ ا ز داوود بن سليمان ارض الر وم وفت حصناً قرب ملطية يسمى حصن الم أ رة.
وفي سنة 988 طلب عمر من أهل طرنده إخلائها والسكن في ملطية، وهي أقرب إلى الشام. بينما
طرنده موغلة في الأناضول، وكان عبد الله بن عبد الملك قد أسكنها المسلمين في العام 03 عندما
فتحها. وكانت ملطية خ ا رب في ذلك الوقت، وكانت الدولة الرومانية تتبع سياسة مشابهة، فقد كان
100 الطبري.
62
الرومان في غزواتهم التي كانوا يحققون فيها بعض النجاح، يقومون بإخلاء بعض العائلات المسيحية
إلى أقاليم محيطة ببيزنطة في البر الأوربي، مثل ت ا رقيا.
وفي سنة 989 غ ا ز الوليد بن هشام وعمرو بن قيس الصائفة.
980 ( الخلافة بعد وفاة عمر بن عبد العزيز، بعهدٍ من أخيه – تولى ي يد بن عبد الملك ) 989
سليمان. وكان عمره أربعاً وثلاثين سنة عند توليه الخلافة.
وقد عرف عن يزيد حبه للغناء والخمر، وهو أمر لم يكن مألوفاً لدى خلفاء بني مروان، ناهيك عن
موقف الدين منه. وقد أُشتهر بتعلقه بحبابة وسلاّمة المغنيتان المشهورتان في ذلك الزمن.
وقد ثار في عهده يزيد بن المهلب، فأرسل إليه جيشين بقيادة مسلمة بن عبد الملك والعباس بن
الوليد، اللذين كانا يقودان الصوائف والشواتي ضد الروم. وقبل سفر الجيوش دخل عليه كل من العباس
ومسلمة وأشاروا عليه أن يعهد لأحدٍ من بعده، وكان لكلٍ منهما أ ريٌ مختلف، فعهد إلى أخيه هشام إبنه
الوليد من بعده.
إنتهت ثورة يزيد بن المهلب بمقتله وقتل ثمانين من أهل بيته.
وفي عهده ثار البربر على واليهم وقتلوه، وعينوا مكانه الوالي الذي كان قبله، وكتبوا ليزيد انهم إنما
فعلوا ذلك لظلم ذلك الوالي وأنهم لم يخلعوا عصا الطاعة، فتعامل يزيد مع ذلك بحكمة وأقر ما فعلوه.
920 ( وهو إبن ثلاث وثلاثين. كانت – بعد وفاة يزيد تسلم الخلافة هشام بن عبد الملك ) 980
أم هشام حمقاء طلقها عبدالملك لحمقها، ولكنها ولدت له هشاماً فلم يكن في بني أمية أكمل منه 101 .
وقد عُرف بالبخل وكان أحولاً، ولكنه كان يحب التأنق فقد كان أعطر وألبس خلفاء بني مروان 102 .
وكان لا يقبل بالظلم وانتهاك الحرمات، فقد عزل إبنه عن ولاية حمص لشكوى وصلته عنه، كما
كان يعطي الوافدين عليه دون تبذير، وربما كان ذلك سبباً في نعته بالبخل. وكان يهتم بالعلم. كما
كان يتحمل النقد. وعندما قاضاه أحدهم جلس أمام القاضي كأي مواطن. وكان الفرزدق هجاه، فطلب
من واليه على الع ا رق بحبسه، ولكنه أطلق س ا رحه عندما توسط له جرير الشاعر 103 ، الذي كان ينافس
الفرزدق.
وروي عن أحد بني العباس أنه قال أنه إطلع على دواوين بني أمية ولم يجد أدق وأرتب من دواوين
هشام. ويقال أن المنصور كان يقتدي به في اسلوب العمل الإداري.
يوحنا الدمشقي
101 . العقد الفريد ج 0
102 العقد الفريد.
103 . العقد الفريد ج 6
63
عمل يوحنا الدمشقي في إدارة الحكومة الأموية، كما عمل أبوه من قبله. وكان يعمل بوظيفة مدير
محاسبة أو مدير مالي أو حتى ما يعادل وزير مالية في زماننا، فقد كان يعمل مع الخليفة مباشرة. وقد
عمل في زمن عبد الملك إلى زمن هشام ثم تقاعد في دير مار سابا الواقع بالقرب من القدس.
وكان يوحنا من رجال الكنيسة وضليعاً بعلم اللاهوت والقانون والفلسفة، إضافةً إلى علمه بالمحاسبة
والأمور المالية والإدارية. وله مؤلفات دينية وأناشيد كنسية لا ت ا زل تتردد في الكنائس إلى يومنا.
في العام 026 م، في زمن حكم ليو الثالث الإيسوري، الذي قاد جيشه وعاصمته بنجاح أثناء حصار
مسلمة بن عبد الملك لها، ظهر خلاف مذهبي حاد دام لعدة قرون، وهو الخلاف حول الإيقونات. فقام
ليو بشن حملة شرسة ضد عرض الصور والتماثيل في الأماكن العامة، مؤيداً بذلك من قبل رجال بلاطه
وحاشيته، وبمعارضة شديدة من قبل بطريرك القسطنطينية وحشد من رجال الكنيسة.
تصدى يوحنا للرد على هذا التوجه الجديد بثلاث رسائل، محتمياً بحمى الخليفة، الذي لم يكن يعرف
شيئاً عن حياة يوحنا ونشاطه كرجل دين. وبهذا إستطاع أن يفعل ما عجز عنه كثيرون من رجال
الكنيسة الذين يعيشون على أ ا رضي الإمب ا رطورية البيزنطية. إحتوت الرسائل بإسلوبها المبسط، هجوماً
عنيفاً على الإمب ا رطور ودعوة للثورة ضده ورد بليغ على طروحاته. فلاقت صيحاته قبولاً واسعاً في
أوساط رجال الكنيسة وصدى قوي في الأوساط الشعبية، مما أكسبه شعبية كبيرة.
وللإنتقام من يوحنا قام ليو بالكتابة إلى هشام بن عبد الملك مدعياً أن يوحنا عرض عليه تسليمه
مدينة دمشق، وأرفق مع رسالته كتاباً منسوباً ليوحنا حول هذا العرض ليثبت ذلك. فقام هشام بطرده من
وظيفته، كما قام بقطع يده، لخيبة أمل ليو الذي كان يأمل أن يخلص من معارض بقد ا رته. تقاعد يوحنا
إلى دير مار سابا واستمر في الكتابة. وهو يعد الآن قديساً في نظر الكنيسة الأرثودكسية الكاثوليكية.
لقد حيكت الكثير من الأساطير حول شخصيه يوحنا، فتذكر بعضها أن يده نبتت من جديد، مما
جعل الخليفة يعيده إلى وظيفته.
في تلك العصور عرف العالم المسيحي الإسلام من خلال كتابات المتعلمين من أمثال يوحنا، الذين
عاشوا بين المسلمين وكان لهم إتصالاتهم، بل كانوا يسافرون لحضور المجامع الدينية. ويؤثر عن
يوحنا أنه وصف محمد على أنه " نبي حقيقي "، ولكنه وصف ما جاء به على أنه هرطقة.
النشاط الحربي
022 م( غ ا ز العباس بن الوليد الروم وفت مدينة دلسة. وفي العام 980 وقعت ( في سنة 983
هزيمة منكرة لجيش إسلامي في إشتباك مع الخزر، الذين كانوا حلفاء بيزنطة، كما كان الجورجيون. وتم
64
تشكيل جيش جديد تحت قيادة الج ا رح بن عبد الله الحكمي وارساله حيث إستطاع أن يلحق ه ا زئم
متلاحقة بالخزر وفت مدنهم الواحدة بعد الأخرى.
020 م( غ ا ز سعيد بن عبد الملك ارض الروم، فبعث سرية من ألف مقاتل فأصيبوا ( وفي سنة 980
جميع اً. كما غ ا ز فيها مروان بن محمد الصائفة اليمنى ففت قونية 104 . وتسمى اليمنى لأنها تنطلق من
الجزيرة حيث كان مروان والي اً. كما غ ا ز الج ا رح الحكمي فبلغ و ا رء بلنجر 105 .
وفي سنة 980 غ ا ز سعيد بن عبد الملك الصائفة. وغ ا ز عنبسة بن سحيم الكلبي عامل الأندلس
في جيشٍ كبير وحاصر مدينة قرقسونة فصالحه اهلها على إتاوة يدفعونها ويطلقوا أسرى المسلمين
ويلتزموا بالمسالمة.
وفي سنة 980 غ ا ز مسلمة بن عبد الملك وفت قيسارية )قيسارية الجديدة(، كما غ ا ز إب ا رهيم بن هشام
ففت حصناً من حصون الروم. وغ ا ز معاوية بن هشام بن عبد الملك قبرص.
وفي سنة 998 غ ا ز عبد الله بن عقبة الفهري الروم بح ا رً، وغ ا ز معاوية بن هشام أ رض الروم وفت
فيها حصن اً.
وفي سنة 999 غ ا ز معاوية بن هشام الصائفة اليسرى، وغ ا ز سعيد بن هشام الصائفة اليسرى، وغ ا ز
في البحر عبد الله بن أبي مريم. وقام هشام بتعيين الج ا رح بن عبد الله والياً على أرمينية، فدخل بلاد
الخزر من ناحية تفليس ففت مدينة البيضاء. فجمع الخزر جيشاً كبي ا رً وساروا به بإتجاه بلاد المسلمين
حتى إقتربوا من الموصل، وفي إحدى المعارك أستشهد الج ا رح وكان إنساناً فاضلا . فسير هشام جيشاً
في سنة 992 بقيادة سعيد الحرشي فردهم وفت أرزن وخلاط وغيرها.
وفي السنوات 992 و 993 و 990 غ ا ز معاوية بن هشام الصوائف فافتت خرشنة و ا ربط ناحية
مرعش.
وغ ا ز سليمان بن هشام في العام 990 الصائفة اليمنى فبلغ قيسارية. التي كانت قد فتحت قبل ست
سنوات واستعادها الروم.
وفي هذه السنة وقعت معركة بلاط الشهداء، التي نتحدث عنها في الفصل الثالث بتفصيل.
ومن سنة 990 إلى سنة 920 إنتظمت الصوائف من الشام )الصائفة اليسرى( ومن الجزيرة
)الصائفة اليمنى(. وقد قاد معظمها ابناء هشام معاوية وسليمان ومسلمة، كما كان لمروان بن محمد
دو ا رً بار ا زً فيها.
104 الكامل.
105 إبن خلدون ز
65
008 م( على المسلمين بمساعدة ( ولكن المصادر الرومانية تسجل نصر للروم في سنة 929
الخزر والجورجيين. بينما يذكر إبن الأثير أن مروان بن محمد إفتت عدة مدن وحصون في أرمينيا في
نفس السنة.
وفي سنة 922 غ ا ز عبد الله البطال على أ رس جيش من عشرةالاف مقاتل وقُتل. وفي سنة 920
غ ا ز سليمان بن هشام بالصائفة فلقي اليون ملك الروم وهزمه. وفي سنة 920 هاجم الروم حصن زنطرة
وخربوه 106 .
وهذه الغزوات، والغزوات المقابلة من قبل الروم، قلما كانت غزوات تهدف إلى ضم أقاليم بشكل
نهائي. فكانت المدن المفتوحة سرعان ما يتم إخلائها. كما كان الروم يعمدون إلى ترحيل الناس الذين
تعتبرهم مواطنيها في المدن التي تفتحها في الشام والجزيرة إلى أماكن خلفية. ولذلك كانت هناك الكثير
من المدن المهدمة والخالية.
926 ( الحكم بعهدٍ من أبيه، الذي عهد لأخيه هشام ولإبنه وليد من - تولى الوليد بن ي يد ) 920
بعده، وعمره خمساً وثلاثين سنة. وقد كان الوليد محباً للهو والغناء وشرب الخمر. وقد أُتهم ثلاثةً من
بني أُمية بهذه الصفة ؛ وهم يزيد بن معاوية ويزيد بن عبد الملك والوليد بن يزيد، وهم الجد والحفيد
وابنه. فأُم يزيد الثاني هي بنت يزيد الأول عاتكة. فالأمر يبدو و ا رثي اً.
وقد كان هشام كثي ا رً ما فكر في أن يعزله عن ولاية العهد، الأمر الذي جعل الوليد، الذي كان، على
ما يبدو، مطمئناً، إلى عدم حدوث ذلك، يكره عمه. وعندما مات هشام بادر بالإنتقام من أبناءه. ويروي
إبن الأثير أنه أرسل الصائفة تلك السنة بقيادة أخيه، ثم تفرغ للهو. ومن أجل تجنب الحرج كان في
حالة حركة دائمة في البوادي والأرياف، حيثما يعسكر يأتيه الشع ا رء والمغنين.
ت زوج سعدى بنت سعيد بن عمرو بن عثمان بن عفان، ثم عشق أختها سلمى، فطلق سعدى وتزوج
سلمى. ثم حن إلى سعدى فحاول إستعادتها، وهكذا كانت متعه همه الأول.
ورغم قصر مدة حكمه فقد ترك لنا الرواة الكثير من الروايات عن مواقفه مع المغنين والشع ا رء
والجواري. وقد مدحه عدي بن الرقاع بقصيدة تعتبر من أجمل قصائد المدي ، وقد ألقاها بوجود جرير
والفرزدق. وبعد ما يقارب من مائة عام طلب هارون الرشيد من الأصمعي مذاكرة هذه القصيدة
لجمالها.
وعندما إستفحل أمر الوليد قرر بعض بني أمية ووجهاء الشام التخلص منه بالقتل، دون أن يجمعوا
على ذلك. فولوا أمرهم يزيد بن الوليد. فجيشوا جيشاً، فبلغه ذلك فإنتقل من البلقاء إلى حمص، وكتب
106 . ابن خلدون ج 3
66
إلى العباس بن الوليد، وكان يحبه، أن يأتيه بجيش. ثُم إنتقل إلى قصرٍ صح ا روي قرب تدمر. فلقوه به
ويسمى البخ ا رء، فتفرق عنه ندماءه وحاشيته وحرسه، فقُتل دون قتال.
وقد كان هذا أول خلاف من نوعه بين بني أمية ولم تقم لهم قائمة بعد ذلك، فقد إنتهى حكمهم
خلال ست سنوات من هذا الحادث، حكم فيها ثلاثة خلفاء.
فمنذ بداية حكم مروان بن الحكم، الذي لم يصب خليفة، إستمر حكم هذه الأسرة 60 سنة، لم
يواجهوا أزمة فيما بينهم قط. بل كانوا يتجنبون الخلاف بطريقةٍ عجيبة. فقد إغتصب مروان السلطة من
خالد بن يزيد، ولم يكن خالد غير مؤهل أو عديم الطموح، ولكنه والسفيانيين جميعاً تقبلوا الواقع الجديد
وأصبحوا ناصحين ومستشارين لأبناء عمومتهم. كما غفر عبد الملك لأم خالد قتل أبيه، ولم يؤثر هذا
على علاقاتهم فيما بعد. وقد فكر عبد الملك أن يتجاوز أخاه عبد العزيز فيولي إبنه مكانه، فمات عبد
العزيز في حياته. كما حاول سليمان أن يورث الخلافة لإبنه أيوب، فمات أيوب في حياته. كما أُتهم
يزيد بتسميم عمر بن عبد العزيز، ويقال أن عمر عرف بذلك قبل أن يموت. ولكن هذا لم يخلق شقاقاً
فيما بينهم. كما كان بنو مروان لا يقلدون أبناء الجواري منهم الخلافة. ويقال أن ذلك يعود إلى نبوءة
كانوا يؤمنون بها مفادها أن آخر حكامهم إبن أمة )جارية(. وقد نبغ منهم من أبناء الإماء كثيرون،
عملوا كولاة وقادة عسكريين ومستشارين للخلفاء، ومن هؤلاء مسلمة بن عبد الملك. لم يحاول أيٌ من
هؤلاء أن يتمرد على هذا التقليد.
926 ( بالخلافة ولكنه مات في نفس العام، فحكم خمسة أشهر، وكان – بويع ي يد بن الوليد ) 926
عمره خمساً وثلاثين عام اً. وتجمع الروايات أنه لم يعهد لأحدٍ من بعده. فإدعى البعض أنه عهد لأخيه
إب ا رهيم بن الوليد، الذي تولى الخلافة وحكم أربعة أشهر،ولم تستقر له الأمور تمام اً.
وكان مروان بن محمد بن مروان بن الحكم، والياً على الجزيرة وما خلفها من أقاليم لفترةٍ طويلة وقد
كان تحت تصرفه جيشاً كبي ا رً كان يغزو به الروم والترك بشكل منتظم، وكان قائداً عسكرياً متم رساً
وادارياً ناجح اً. وكان قد تردد في بيعة يزيد بن الوليد لعدم رضاه عن قتل الوليد بن يزيد. كما كان
طموحاً وقاد ا رً. فعندما بلغه موت يزيد عين له نائباً في الجزيرة وضبط الثغور وتقدم بجيشٍ كبير إلى
الشام. فخاض معارك عديدة مع جيوش يقودها أم ا رء من بني أمية. حتى تمكن من خلع إب ا رهيم
وقضى على معارضة بني أمية وأخذ البيعة لنفسه. وكان عند بدء حركته يدعو لأبناء الوليد بن يزيد،
الذين كان أبوهم قد عهد لهم، ولكنهم قُتلوا، فدعا لنفسه. لقد عارض مروان التطاول على الخلافة، وفي
رسالة بعثها إلى الغمر بن يزيد قارن بين الخلافة والنبوة 107 .
الطبري. 107
67
932 ( سبع سنوات لم يهدأ فيها عن – إلا أن الوضع لم يستتب له، فحكم مروان بن محمد ) 926
مقاومة خصومه، فقد ثار عليه معظم الأقاليم، كما سيطر الخوارج على المدينة، وثار عبد الله بن
معاوية بن عبد الله بن جعفر في الكوفة، وثار آخر في اليمن، وح ركات في المغرب وفي خ ا رسان كانت
خلافات بين العرب. فكان مروان يربط الزحف بالزحف، ولذلك سمي مروان الحمار، لشدة صبره. وفي
عهده قامت ثورة بني العباس، التي إنتهت بهزيمة بني أمية وقتل مروان، الذي كان آخر حكامهم ومن
أنجبهم.
النهضة العلمية
العلوم الدينية
لقد عرفت مساجد البصرة والمدينة والكوفة ومكة ودمشق حلقات درس تعقد بإنتظام ويتلقى فيها
طلاب دروس في الفقه والتفسير والحديث على أيدي فقهاء عظام من المستغرب أن يجتمعوا في عصرٍ
واحد. كما عرفت هذه الحلقات طلاب مجتهدين نبغوا فيما بعد.
الخط
لقد بدأ تطور الكتابة الع ربية في عهد علي بن طالب، حيث كان قد كلف أبو الأسود الدؤلي بالتمييز
بين الحروف المتشابهة، حيث لم يكن هناك تنقيط. فوضع نقاط ملونة. ثم جاء الف ا رهيدي، الذي كان
يعيش في البصرة فوضع النظام الذي نعرفه الآن، بدون ألوان. كما تطور الخط العربي، وبدأ يظهر
أشكال متعددة منه. مثل الكوفي، وهو أنواع عديدة تصل إلى سبعين، والثلث وغيرها. ثم أصب الخط
العربي فناً يدخل في تجميل المباني وتجميل الملابس، فكانت الملاابس توشى بكتابة على الحافة تسمى
الط ا رز.
النحو
وفي هذا العصر تم وضع علم النحو من قبل سيبويه، وهو من أصل فارسي. بحيث يسهل تعلم
العربية على غير العرب. ولم يكن قبل ذلك موجوداً لعدم حاجة العرب إليه.
68
ال ع روض
لقد عرف العرب الشعر وأبدعوا فيه منذ الجاهلية، وعرفوا البحور الشعرية، ولكن لم يقم أحد بتبويب
هذه البحور ود ا رسة خصائصها. فقام الخليل بن أحمد الف ا رهيدي بعمل ذلك بحيث يستطيع غير العربي
فهم البحور وأو ا زنها ود ا رستها.
الشعر
لقد العصر الأموي الأوسط شع ا رء عظام، عاشوا العصر نفسه وتنافسوا فيما بينهم، وهجا بعضهم
بعضاً وتعلموا من بعضهم وتسامروا. لقد نشأت علاقة عجيبة بين الفرزدق وجرير، وهما من أعظم
شع ا رء العربية عب ا رلعصور. كما عاش هذا العصر الأخطل وكثير عزة وعمر بن ابي ربيعة وعدي بن
الرقاع والاحوص وابن الدمينة وليلى الأخيلية. وقد كان إنتاجهم غزي ا رً أغنى الشعر العربي بشعر لا
ي ا زل يمتع الذي يستمع إليه حتى يومنا هذا.
الخطابة
تطور فن الخطابة وأصب أحد أشكال الأدب العربي في العهد الأموي. فقد كانت وفود القبائل تفد
على الخلفاء، وكذلك على ولاتهم، حيث يتحدثون بكلامٍ بليغ معلنين موقفٍ ما أو عارضين طلباتهم.
الكتابة
تطورت عي عهد بني أمية مهنة الكتابة. حيث أُشتهر لكل خليفة كاتب معروف، سرجون بن منصور
وعبد الحميد الأكبر وعبد الحميد الكاتب، الذي كان كاتب مروان بن محمد، وقد أدخل أساليب جديدة
في الكتابة.
الم ا رسلات
لقد تطور أدب الرسائل كثي ا رً، وهو امرٌ لم يكن معروفاً على نطاقٍ واسعٍ لدى العرب، بل كان
العرب يفضلون الرسائل القصيرة، والقصيرة جداً منها كانت تسمى التوقيعات. وقد خلد لنا التاريخ الكثير
منها وهي أعمال إبداعية، ولكن قصرها وايقاعها كثي ا رً ما كان على حساب المضمون. وقد كان القصر
محكوماً بالإمكانيات التي تتيحها مواد الكتابة المتاحة. فقد كتب الرسول رسائل لحكام زمانه، وكانت
69
جميعها قصيرة، وتتكون من جمل مقتضبة. أما م ا رسلات عبد الملك والحجاج، كمثال، فقد كانت طويلة
ومت ا ربطة في أفكارها وتنم عن تطور في هذا الفرع من فروع الأدب.
الغناء
لقد عرف العرب الغناء منذ الجاهلية، وقد إنتشر بشكلٍ خاص في المدن التي كانت تقام فيها
الأسواق. ولكن العرب كانت تفضل الإستماع للشعر على الغناء، ومع هذا كان موجود اً.
إنتعش الغناء في العهد الأموي في مدن مثل المدينة ومكة ودمشق والكوفة والبصرة. وكان مغنو
المدينة هم الأفضل، فإشتهر طويس في زمن عثمان وعاش إلى زمن معاوية. ثم ظهر إبن سريج
والدلال ونؤومة الضحى وسلم الخاسر. ثم ظهر الغريض ومعبد 108 ، وهو صاحب دا ا رت معبد.
وكان كثيرٌ من أعيان الجيل الثاني )التابعين( يستمع إلى الغناء بشكلٍ منتظم، ومنهم عبد الله بن
جعفر. ولكن أكثر خلفاء بني أمية لم يتقبلوا الغناء. وقد كان الوليد بن يزيد يُقبل عليه المغنون مثلما
كان الشع ا رء يقبلون على جده. وعُرف من بينهم حكم الوادي وغُزيل.
الم وسيقى
لقد تطورت الموسيقى مع تطور الغناء، كما أُضيفت آلات جديدة، مثل البربط. وقد إنتشر الغناء
في مدن الدولة المترفة مثل المدينة والكوفة والبصرة ودمشق. وأخذ المغنون، الذين ا رجت بضاعتهم،
في تطوير الغناء وتنويعه. وقد إعتمدت الموسيقى العربية على الإغريقية.
التاريخ
بدأ، في هذا العصر،إهتمام العلماء بتدوين السير وتحقيقها. كما ظهر مهتمين بتتبع سير الفتوحات
والمعاهدات المبرمة مع سكان بعض الأقاليم المفتوحة. كما بدأ الإهتمام بتاريخ الشعوب الأخرى،
والأقوام الذين عاشوا في عصور سابقة. لقد عُرف الكثيرين ممن إشتغلوا في حقل التاريخ، ولكن لم
تظهر لهم أعمال كثيرة. فقد ظهر أول عمل مدون للسيرة النبوية في عهد المنصور أعده إبن إسحق،
الذي الذي يعد من رجالات العصر الأموي.
108 العقد الفريد.
70
العلوم الإدارية
لم يتحول علم الإدارة إلى علم ممنهج ومدون، إلا في القرون الأخيرة. ولكن الإنسان بدأ ي ا ركم
معارف إدارية منذ أزمنة قديمة جد اً. وقد بدأ يظهر في العصر الأموي أنماط إدارية خاصة، إجتهد في
صياغتها بعض الحكام الإداريين، حيث نبغ زياد وعمرو بن العاص والحجاج وكثير من الولاة. ولكن
من المؤسف أن هذه التجارب لم تمؤسس ولم يبنى عليها بشكل ت ا ركمي.
العلوم العسكرية
لقد مارس العرب الغزو لعقود طويلة فيما بينهم، بشكل مبسط وبأسلحة خفيفة. ولكن بعد الإسلام
واجه العرب دولاً كانت تملك موروثاً مت ا ركماً من التجارب العسكرية التي نجم عنها عقيدة عسكرية
متوارثة، ومع هذا إستطاعوا تحقيق إنجا ا زت كبيرة مستفيدين من تجاربهم مع هذه القوى المختلفة التي
إصطدموا بها. الأمر الذي خلق الفرصة لتأسيس علم عسكري خاص يتناسب مع الوضع العربي
الإسلامي، غير مدون ولكنه كان يتناقله القادة ويوصى ببعضه الخلفاء عند إرسال الجيوش.
النشاط الحربي
لقد ت ا رجع النشاط الحربي في هذه المرحلة. ففي سنة 920 ه هاجم الروم حصن زنطرة وخربوه.
وفيها غ ا ز الغمر بن الوليد الصائفة في زمن الوليد ، والتي نظمها في بداية حكمه. كما بعث الأسود بن
بلال المحاربي إلى قبرص ليخير أهلها بين الشام والروم، حيث إختار بعضهم الذهاب إلى الشام واختار
البعض اللحاق بأرض الروم. وفي سنة 938 غ ا ز الوليد بن هشام، في أيام مروان، الصائفة 109 .
وكانت آخر غزوات بني أمية.
نهاية مرحلة
لقد أسس الأمويون دولتهم مرتين، في زمن معاوية وفي زمن مروان، وفي كلا المرتين كانت فرصهم
في النجاح ضعيفة جداً ولكنهم إستطاعوا بحنكتهم أن يحسموا الموقف لصالحهم ويبنوا دولة لعبت دو ا رً
كبي ا رً في تغيير العالم أجمع.
109 إبن خلدون.
71
خارطة الدولة الأموية في أقصى إتساعها
لقد كانت قوة الأمويين في توحدهم وتعاونهم، وقد أدركوا ذلك منذ الجاهلية. ففي أيام البعثة النبوية
توحد بني أمية ضد الدين الجديد، فلم يسلم منهم سوى عثمان بن عفان، بينما كان بنو هاشم منقسمون
على أنفسهم، فالغالبية كانت مع الرسول، حتى دون أن يسلموا، ولكن البعض كان ضده، مثل عمه أبي
لهب، كما كان كثيرون على الحياد مثل طالب بن أبي طالب. وقد أسلم من بين أعمام الرسول إثنين
حمزة والعباس ومات على دين قومه منهم إثنين هم أبو طالب وأبو لهب، وكان الأخير من أكبر
المحرضين ضد النبي. وقد حارب في بدر.. وفي صفين الكثير من الهاشميين.
كما أن الأمويين كانوا يتقنون إستمالة الحلفاء، وماهرين في أستخدام الموارد المتاحة لديهم، بما في
ذلك المال، ويتقنون جمعه.
72
وكانوا كذلك يحسنون توقيت تحركاتهم، ويتقن ون المناورة والت ا رجع عن المواقف المضرة بمصلحتهم.
وهذا لم يكن يعني بالضرورة أنهم كانوا م ا روغين، بل وصفت الطريقة التي تخلص فيها عبد الملك بن
مروان من عمرو بن سعيد أنها غادرة وندم عليها عبد الملك كثي ا رً.
لقد إتسعت الدولة في زمنهم إلى ثلاث قا ا رت، فقد ضمت الأقاليم الواقعة بين الحدود الهندية
الباكستانية الحالية والمحيط الأطلسي، مضافاً إليها أج ا زء واسعة في آسيا الوسطى والأناضول وفرنسا
وأيطاليا وسويس ا ر وجميع إيبيريا ومعظم جزر البحر المتوسط. فقد شملت دولتهم أ ا رضي تقع الآن في
ثلاثين دولة، ومساحتها تربو على إثني عشر مليون كيلومتر مربع. وقد إحتاج ذلك إلى تنظيم إداري
محكم ووسائل إتصال فعالة. والأهم من ذلك حكم الأمويون هذه المساحات الواسعة بدولة ذات هيبة،
وما إن إهتزت هيبتهم بعد مقتل الوليد بن يزيد حتى ثار ضدهم العش ا رت من الأشخاص والأقاليم
والحركات. فلو لم تظهر الحركة العباسية لتمزقت الدولة إلى عش ا رت الوحدات السياسية. وقد فرزت
المرحلة العش ا رت من الرجال العظام، من ولاة وقادة عسكريين وشع ا رء وقضاة. والأغرب من ذلك ظهور
قادة بحريين إستطاعوا تسجيل إنتصا ا رت هامة على البحرية البيزنطية، التي كانت في ذلك الزمان
الأقوى والأكبر والأكثر خبرة ود ا رية في البحر الأبيض المتوسط. لقد برز من بينهم عبد الله البطال
الذي تمكن من أسر قنسطنطين إبن ليو الثالث إمب ا رطور البيزنطيين أثناء مشاركته في حصار
القسطنطينيبة. وحسان بن النعمان، الذي فت قرطاجة، ذات الموقع المهم بالنسبة لأوربا، فأرسلت
بي زنطة أفضل قادتها لإستعادة المدينة، وفعلاً إستطاع يوحنا البطريق John The Patrician إستعادة
الميناء ولكن تمكن حسان من هزيمته، حيث أبحر إلى كريت. على أن النشاط العسكري الإسلامي
يبدو وكأنه غير مبني على إستطلاع جيد وعمل إستخباري يدل على فهم العدو. مثلاً عندما واجه
العرب البلغار في حصار القسطنطينية الثاني، إعتقدوا أنهم صقالبة، وقد كان البلغار هم العدو الآخر
للبيزنطيين، التي كانوا يتحاربون معه عندما ينشغل العرب بأنفسهم. فكان من الممكن إستمالتهم أو
تحييدهم على الأقل. كما تسجل حملة عبد الرحمن الغافقي جهل في واقع البر الأوربي وفي جغ ا رفيته.
وفي العموم يبدو أنهم لم يكونوا يعرفون عن الص ا رعات التي كان تخوضها بيزنطة مع جي ا رنها في
البلقان، كما لم يكونوا يعرفون الخلافات المذهبية والدينية في أوربا، فقد كان البلغار في وقت حصار
القسطنطينية وثنيين وحاربوا معها.
ولكن المصادر البيزنطية تسجل للعرب إنجا ا زً استخبارياً مهماً في هذا المجال. فقد كان جستنيان
قد قام بتهجير أعداد كبيرة من السلاف )الصقلاب( من البلقان إلى الأناضول بعد هزيمتهم، فكان
عددهم كبير لدرجة أن قوة من ثلاثين ألف خيال تشكلت منهم، وأُشركت في حرب أرمينيا مع العرب.
وتقول هذه المصادر أن العرب رشوا السلاف ليثوروا على الرومان، الأمر الذي أدى إلى خسارة الحرب
73
أمام العرب.فهل فعلها العرب ؟. مما يدلل على وجود معلومات دقيقة ووجود آليات للحصول عليها
واففادة منها. أم هي نظرية المؤامرة التي عادةً ما يلجأ إليها المهزوم ؟.
لقد لمع العش ا رت من القادة العسكريين مثل عقبة بن نافع فات المغرب وموسى بن نصير والي
المغرب وفات الأندلس بالمشاركة مع طارق بن زياد. ومالك بن السم وعبد الرحمن الغافقي الذين قادا
حملات على غالة. وكذلك قتيبة بن مسلم والي خ ا رسان الذي فت أقاليم عديدة في أواسط آسيا.
ومحمد القاسم فات السند. ومسلمة بن عبد الملك والعباس بن الوليد ومروان بن محمد الذين قادوا
العديد الصوائف والشواتي في الأناضول. وقد لمع المهلب بن أبي صفرة في حرب الخوارج. ومن
الملاحظ أن القواد الذين كانوا يقودون الصوائف والشواتي والفتوحات قلما إشترك وا في المعارك الداخلية
والفتن.
لم يعبأ المؤرخون العرب بتأريخ تفاصيل المعارك، وانما إكتفوا بالنتائج وقليلٍ من التفاصيل. فنجد
مادة عن مجانين دير هزقل أكثر تفصيلاً مما يوجد عن معركة بلاط الشهداء، وعن هبنقه، الحمقاء،
أكثر من مالك بن السم . ولذلك لا غ ا ربة أننا لا نعرف الكثير عن إنجا ا زت هؤلاء القادة العظام. لقد
كان القائد الروماني بلي ا زريوس في القرن السادس، يصطحب معه المؤرخين في حملاته، كما ي ا رفق
الصحفيون الزعماء في زماننا. كما أن الشع ا رء العرب قلما ذكروا الذين دافعوا عن الأمة بقصائد تخلد
ذك ا رهم، مثل أغنية رولاند مثلاً، وعلى العكس فقد قارن أحد المغنين " دا ا رت معبد "، وهي
ألحان مبنية على قصائد غزلية قديمة، وعددها أربعة، بأربعة حصون فتحها قتيبة بن مسلم، وكان
الأجدر به، إنجاز عمل فني أو أدبي من روح ما يجري حوله في خ ا رسان القرن الهجري الأول، لو فعل
ذلك لكان قدم إضافة مفيدة وخالدة.
كما لمع ولاة أقوياء ساهموا في تثبيت أركان الدولة مثل عمرو بن العاص وزياد في الجيل الأول،
والحجاج وموسى بن نصير وقتيبة بن مسلم في الجيل الثاني. كما لمع يزيد بن المهلب وخالد بن عبد
الله القسري ومروان بن محمد وغيرهم قبيل أُفول نجم الدولة.
كذلك كان العصر الأموي الأوسط عصرٌ نبغ فيه شع ا رء عظام. فقد كان يلتقي في بلاط خلفاء
بني أمية شع ا رء مثل الفرزدق وجرير والأخطل وكثير عزة وغيرهم. وكانت مواقف خلفاء بني أُمية من
الشع ا رء مختلفة. فكان عمر بن عبد العزيز لا يستقبلهم، بينما كان هشام لا يعطيهم الكثير، فإتهموه
بالبخل وهجاه الفرزدق. أما البقية فقد كانوا يجزلون العطاء.
ظهر في العصر الأموي قضاة كبار أيض اً. مثل شري ، الذي كان مدرسة. كما كان زياد يمارس
القضاء، وفي زمن بني أمية وضع علم النحو والعروض وأُضيف التنقيط إلى الحروف العربية.
74
إتسم الجزء الأول من حكم بني أُمية بخاصية فريدة. وهي تتعلق بالطموح الشديد لأبناء الصحابة.
الذي كان يعتقد الكثيرون منهم أنهم يستحقون دو ا رً. فقد تحول بعضها إلى فتن مزقت الأمة مثل حركة
عبد الله بن الزبير ومطرف بن المغيرة بن شعبة وعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وقدم البعض
الآخر خدمات جليلة مثل عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، بينما أقدم البعض الآخر على أفعال مستغربة
مثل عمر بن سعد بن أبي وقاص وعبيد الله بن زياد ومحمد بن ابي بكر.
لم تكن العلاقات مع أوربا عدائية بالمطلق، فقد تخللتها هدنات ومعاهدات سلام كثيرة. كما كان
هناك تعاون، فقد طلب الوليد من الإمب ا رطور البيزنطي المساعدة في بناء المسجد الأموي، فأرسل له
مهندسون وعمال مهرة. كما كان هناك تجارة لا تنقطع، إلا في أوقات القتال، مع بيزنطة. وقد كان
الطرفان يحتاجان لمعاهدات سلام فيما بينهما، لإنشغالهم مع أعداء آخرين، العرب في مشاكلهم
الداخلية، والروم مع جي ا رنهم في البلقان أو إيطاليا. وفي إحدى الم ا رت التي عقد فيها إتفاق عدم إعتداء
مع الروم في زمن معاوية، كان من المفروض أن يدفع معاوية مبلغاً من المال، بينما يقدم الطرف
البيزنطي رهائن،حيث أودعهم معاوية في بعلبك. وحدث أن خرق الروم الإتفاق. فلم يقم معاوية بقتل
الرهائن أو إيذائهم، قائلاً " وفاء بغدر خير من غدر بغدر " 110 .
ومهما كان تقييم المؤرخين لهذه المرحلة، فلا يمكن الإنتقال إلى مرحلة أخرى دون التعليق على
حدثين هامين في العلاقة بين الشرق والغرب ؛ وهما معركة بلاط الشهداء وحصار القسطنطينية. وهما
حدثان يعطيهما المؤرخون الأوربيون أهمية كبيرة. فقد كتب جيبون أن ال ا رين ليس أعرض من النيل،
فكان من الممكن أن تجتاح أوربا كلها، وربما كانت مدارس أوكسفورد تدرس القرآن وتعاليمه. ومن
خلال تغطية المؤرخين العرب، لا يبدو أن الحدثين كانا بالحجم الذي صنعه مؤرخو أوربا وساستها.
ومهما يكن من أمر فإنهما كانت قرعتان مدويتان على أبواب أوربا. وفي كلتي الحالتين لم يحدث قتال
حقيقي، فإحتمالية نتائج مغايرة كانت عالية جد اً.. في الحالتين.

 
 

 


تعليقات

لا يوجد تعليقات

الإسم 
البريد الإليكتروني (ليس للنشر)
التعليق
هل توافق على الانضمام لمجموعتنا البريدية؟
  أرسل

 

Counter