كتاب " نحن واوربا " - االجزء الثاني - لفصل الرابع - ( القسم الاول )
 
 



الفصل الرابع

 

الدولة العباسية

 

المؤامرة العباسية

العباس هو عم النبي (ص)، والذي تولى زعامة بني هاشم بعد وفاة أخيه أبي طالب، وبالتالي مسؤولية السقاية، أي توفير الماء للحجاج.  وقد تأخر إسلام العباس، حيث أسلم قبل الفتح بقليل.  ولكنه كان يساند النبي ويدافع عنه طوال الوقت ويتعاطف مع دعوته، وغالباً ما يكون قد أسلم قبل ذلك دون أن يشهر إسلامه.  ويُعزى ذلك لمكانة العباس في قريش، حيث كان أحد كبار زعامتها، وللدور الذي لم يكن بنو هاشم ليخاطروا بفقدانه بهجرة العباس، مضطراً أو مختاراً.

عاش العباس إلى زمن عمر، وقد ترك الكثير من الأبناء، مثل الفضل، وكان يكنى به، وقثم وعبيد الله وعبد الله، وقد نبغ من بينهم عبد الله، الذي سُمي بحبر العرب لغزارة علمه.  وقد كان والياً لعلي

على البصرة.  وكان قبل ذلك مرافقاً لعمر، كما شارك بجيش عبد الله بن أبي السرح، الذي غزا ليبيا في زمن عثمان، وقد أُشتهر لدى المحدثين بإسم إبن عباس، حيث روى كثيراً من الأحاديث.

عاش عبد الله إلى زمن عبد الملك، وكان قد رزق بولدٍ في آخر عهد علي بن أبي طالب، فسماه علي بن أبي طالب على إسمه، وعندما زار إبن عباس معاوية بعد عام الجماعة، قام معاوية بإطلاق كنية على هذا المولود قائلاً سماه علي وانا أكنيه، فكناه أبا محمد.  وقد قُدر لهذا المولود، الذي سماه علي وكناه معاوية أن يكون جد مؤسس للسلالة العباسية، التي إنفردت بالحكم لمدة خمسمائة عام.

لقد كان بنو العباس، إبتداءاً من عبد الله، يعتقدون أن الخلافة آيلةٌ إليهم لا محالة، وفي هذا الصدد تُروى عشرات الروايات.  فقد قال أبن عباس لمعاوية في إحدى المساجلات الكثيرة والمثيرة للإهتمام بينهم، أنه " لئن صار الأمر إلينا ثم وليكم من قومي مثلي كما ولينا من قومك مثلك، لا يرى أهلك إلا ما يحبون "[1].  وقد كبر علي ليصبح شخصاً له مكانته بالمجتمع، ولكنه عوقب مرةً بالضرب في زمن الوليد، وذلك لكثرة تحدثه أن الحكم سيؤول إلى بنيه، فوضعوه على بعير وطافوا به في الشوارع ومنادٍ ينادي " هذا علي بن عبد الله الكذاب "، فسأله أحد الناس عن الموضوع، فحلف أن ذلك كائناً، حتى يملكهم عبيدهم الصغار العيون العراض الوجوه.  وقد وردت هذه الرواية في العقد الفريد الذي كُتب في الأندلس في زمن بني أمية وقبل نهاية الدولة العباسية على يد المغول[1].

وقد سكن علي بن عبد الله بن عباس  في الحميمة بالقرب من أذرح في جنوب الأردن، التي كانت مدينة عامرة وشهدت أحداث كثيرة في ذلك الزمان، مثل صلح معاوية والحسن، وكان عبد الملك بن مروان قد أقطعه الحميمة، فبنى بها قصراً [2].

وعلى الرغم من أن هذا الموقع غير بعيدٍ عن العاصمة دمشق، فإنه كان بعيداًَََ عن الرقابة.  فمن الحميمة أدار العباسيون جهودهم لتولي الخلافة من بني أُمية، بمنتهى الصبر والروية والسرية.

 وقد بدأت الدعوة تأخذ منحى أكثر نشاطاً في سنة مائة للهجرة، حيث أخذت شكلاً منظماً وتعيين قادة، وتشكيل مجلس نقباء من إثني عشر نقيباً، ومن خلفهم سبعين، والطلب منهم تكثيف الدعوة.  وكتب لهم كتاباً يشرح لهم كيف يسيرون بالدعوة [1]. وهناك رواية أن عبد الله بن محمد بن الحنفية عهد لمحمد بن علي لما أحس بقرب أجله أثناء عودته من دمشق إلى المدينة، وأنه أبلغ شيعته أن يرجعوا له.  وهذه، في الأغلب، دعاية عباسية لكسب الشرعية.  فبني العباس كانوا يطمحون للخلافة من قبل ذلك.  ولماذا لم يعهد عبد الله بن محمد بن الحنفية إلى أحد العلويين.  ويقال أن عبد الله بن محمد قال له أن ينتظر حتى تأتي سنة الحمار، التي فسرها له على أنها العام مائة من الهجرة.  وكان حتى ذلك العام، وعلى مدى جيل كامل يؤسسون فيما يسمى بلغة معاصرة " الخلايا النائمة "، قليلة النشاط، التي تعمل بمنتهى السرية، أو لا تعمل على الإطلاق حفاظاً على سريتها، وعلى الرغم من أن المصادر تذكر الكوفة من بين الأقاليم التي عملوا بها، بالإضافة إلى خراسان. فإن الأرجح أن الدعوة تركزت في خراسان.  التي كانت تعصف فيها حرب " أهلية "، حيث كان أبناء القبائل العربية التي إستقروا في تلك البقاع، يتقاتلون فيما بينهم.  وهذه الظاهرة لم ينتهي أثرها في تسهيل إنتصار ثورة بني العباس فحسب، وإنما إمتد أثرها بتراجع فرصة تعريب بلاد فارس وخراسان، إذ ضعف الوجود العربي فيها بحيث أصبح عديم التأثير، بعد أن إنخرط الفرس في الحضارة الإسلامية العربية ، وساهموا في بناءها وهي في طور التكوين وقد ظهر ذلك في علوم النحو والعروض ، كما ظهر في جمع الحديث وتفسير القرآن وعلوم أخرى. 

وفي العام 104 للهجرة ولد لمحمد بن علي ولداً سماه عبد الله ، وهو الذي تولى الخلافة وتسمى بالسفاح، وعندما وفد عليه جماعة من شيعتهم، أخرجه إليهم رضيعاً قائلاً، هذا إمامكم، فأخذوا يقبلون أطرافه.  ثم سمى أخاه عبد الله أيضاً، وتولى بدوره الخلافة وتسمى المنصور. 

مات محمد بن علي في أيام الوليد بن يزيد، وأوصى لإبنه إبراهيم، الذي تولى قيادة الحركة ونشطها.  فبدأ الدعاة يعملون بهمة أعلى ويلتقون الإمام سنوياً، إما بالحميمة أو في مكة في موسم الحج، وكانوا يحضرون معهم خراجهم، وهو الخمس.  وكان يحملهم الرسائل والتعليمات وكتب التكليف.  وقد برز أحد الدعاة الشباب في هذه المرحلة، وهو أبو مسلم السراج الخراساني، وكان إبن تسعة عشر سنة عندما ولاه الإمام إبراهيم بن محمد بن علي الأمر، مما حدا بالبعض الإرتياب من هذا التكليف، فجاؤوا إلى الحج فأكد إبراهيم ذلك، وطلب منهم إطاعته وقال عنه أنه " منا أهل البيت "، وسماه إبراهيم بالإمام [1] وكان ذلك في سنة 128ه.  وهذه العبارة كان قد قالها الرسول (ص) في حق سلمان الفارسي. وقد أعطى أبو مسلم روحاً جديدة للحركة بحيويته وقدراته القيادية وتأثيره في الناس.  كما برز أيضاً أبو سلمة الخلال، وكان يسمى وزير آل محمد، كما كان ابو مسلم يسمى أمين آل محمد.  وقد كانت الدعوة لأهل البيت عامةً، علويين وعباسيين وغيرهم.

لم تمضي الحملة بسرية مطلقة، فقد تسربت بعض الأخبار، فقُبض على بعض الدعاة في الكوفة، ولكنهم إدعوا أنهم تجار قدموا من خراسان، فشهد معهم بعض أبناء عشائرهم من أهل الكوفة، كما قُبض على بعضهم في خراسان في سنة 117 ولكنهم أنكروا، وإستطاعوا أن ينجو بحجة أن التهمة كيدية، على خلفية الخلافات القبلية المشتعلة بين العرب في خراسان[1]، ولهذا لم تأخذ القضية حجمها الفعلي الذي آلت إليه، فقد كان الأمويون مشغولين بخلافاتهم، كما كانت خراسان تعج بالمؤامرات والخلافات القبلية والإقتتال والحركات المناوئة.  وقد وصلت الأمور حد منع والي العراق، إبن هبيرة،  رسائل والي خراسان، نصر بن سيار، من الوصول إلى الخليفة في دمشق، والتي كان كثيرٌ منها في هذه المرحلة، يتكلم عن حملة العباسيين المتعاظمة.  ومع هذا فقد قُبض على أحد حاملي هذه الرسائل القادمة من الحميمة إلى  خراسان وتحمل رد إبراهيم إلى أبي مسلم.  وقد حدث هذا في زمن مروان،

فأمر بإعتقال إبراهيم، وأُودع السجن حتى قتل مع من قتل من سجناء آخرين في ثورة مروان. ولكن في هذه المرحلة كانت الثورة قد تعاظمت إلى درجة أصبح من الصعب إحتوائها.  وعلى أثر الإعتقال غادر العباسيون الحميمة إلى الكوفة وتولى عبد الله بن محمد، السفاح قيادة الحركة ( الإمامة ) .

ولم تخلو الحركة من بعض الصعوبات والإنتكاسات ولكنها كانت تعالج بطريقة تنم عن سيطرة كاملة. فقد غضب الإمام على بعض النقباء لمخالفتهم تعليماته، فأرسل لهم كتباً لا تحتوي أكثر من بسم الله الرحمن الرحيم، فعلموا عندئذٍ أنه غاضبٌ عليهم، فتراجعوا واعتذروا.  كما كان من الممكن أن يشكل إعتقال الإمام إبراهيم وموته في سجن الأمويين ضربة مميتة للحركة ولكنها تجاوزته بطريقة مؤسسية، ولم يستطع الأمويون إعتقال أحدٍ غيره. وفي العموم، يمكن القول أن الحركة أُديرت بطريقة ناجحة، وأظهر العباسيون حنكة في إدارة الثورة لم يظهروها في إدارة الدولة.  
وفي سنة 129 طلب الإمام إبراهيم بن محمد من أبي مسلم المثول إليه، فقدم حاجاً بصحبة النقباء السبعين[1]، وبينما كان في الطريق لقيته رسل الإمام طالباً منه الرجوع إلى خراسان وإشهار الدعوة فعاد إلى خراسان، حيث تولى  قيادة الحركة، وأخرجها إلى العلن وبدأت الرايات السوداء تظهر معلنه الخروج على بني أمية والدعوة إلى بني العباس.  لقد أضاف هذا الإعلان جبهة جديدة لمروان بن محمد، الذي كان قد تولى السلطة قبل ثلاث سنوات، لم يهدأ خلالها من قتال المنشقين عليه، من بني أمية ومن أهل الشام والخوارج وغيرهم. كما فتح جبهة جديدة لوالي خراسان، الذي كان منشغلاً بثورة أخرى (الكرماني).  فأخذ المسودة، كما كان ثوار العباسيين يسمون، يسيطرون على المدن والحصون واحداً تلو الآخر.  وجاء اللقاء الأول بين أبي مسلم ووالي بني أمية على خراسان، بعد ثمانية عشر شهراً، وهذا يدل على حالة العجز والترهل التي وصلت إليها الدولة الأموية.  فإنهزم الأمويون في اللقاء الأول وأُسر قائدهم.

وفي سنة 130 بعث الإمام قحطبة بن شبيب إلى أبي مسلم حيث وضعه على مقدمة الزحف إلى العراق.  فتقدم يرسل السرايا إلى المدن ويفتحها، وقد كان في مدينة جرجان حامية من أهل الشام، فهابهم المسودة، فخطب بهم قحطبة مدعياً أن الإمام قال لهم أنهم يلقون أهل الشام وينتصرون عليهم.  وفعلاً إنتصر جيش قحطبة.  وتراجع نصر بن سيار، والي خراسان، وطلب مدداً من إبن هبيرة، والي العراق الذي كان ينافسه ويمنع رسائله من الوصول إلى الخليفة، فلم يمده إلى أن أصر عليه مروان فعل ذلك.  وما لبث نصر بن سيار أن توفي، وإستولى قحطبة على مدن جرجان وطوس والري وحلوان. كما وضع أبو مسلم ولاة لمرو وسمرقند وغيرها.  

ثم سار قحطبة يريد إبن هبيرة، فإلتقوا على الفرات وإقتتلوا وإستمر القتال حتى الظلام.  فأصبحوا ووجدوا قحطبة قد قُتل وإبن هبيرة قد هزم.  فعلق على ذلك مروان قاءئلاً: هذا والله الإدبار وإلا متى رأيتم الميت يهزم الحي ؟[1].
سيطر المسودة على معظم العراق، وبدأوا بأخذ البيعة لعبد الله بن محمد بن علي، السفاح، في سنة 132. وكان قد توجه إلى الكوفة بعد إعتقال أخيه إبراهيم، حيث كان قد طلب منه ذلك [1].  ثم وجه السفاح عمه عبد الله لقتال مروان، ووجه أخاه أبا جعفر (المنصور) إلى إبن هبيرة في واسط.  فهُزم إبن هبيرة، وهُزم مروان في معركة على نهر الزاب في شمال العراق على الرغم من أن جيش مروان كان يعد 120000 بينما لم يتجاوز جيش العباسيين العشرين الفاً، حسب رواية أبن كثير غير المنحازة.  فقد كان جيش الأمويين ينقصه الإنضباط. وقد تردد الطرفان بأخذ المبادرة بالهجوم لإسباب مختلفة، فقد تردد العباسيون لقلة عددهم، بينما تردد الأمويون لمعرفتهم بوضعهم الداخلي، حيث قال مروان: إن زالت الشمس ولم يقاتلونا كنا نحن الذين ندفعها إلى عيسى بن مريم، أي الخلافة والسلطة. ولكن القتال بدأ بمبادرة فردية من قبل أحد قادة مروان، وأنهزم الأمويون، وتراجع مروان إلى الموصل ثم الشام، التي لم تكن ودية معه، حيث قوبل ببعض الأعمال العدائية في بعض مدنها.  كما أن أهل الموصل لم يفتحوا له أبوابها، حيث صاحوا من فوق الأسوار أن أمير المؤمنين لا ينهزم [1]. الأمر الذي دفعه إلى التوجه إلى مصر، حيث خاض معركته الأخيرة، وهُزم فيها وقُتل.  وكانت المعركة في أبو قير، على الساحل الشمالي لمصر.

السفاح (132 – 136)

عندما أُعتقل إبراهيم اوصى بالأمر إلى أخيه عبد الله (السفاح)، وطلب منه الإنتقال إلى الكوفة، فإنتقل بإخوته وبينهم عبد الله (المنصور) وإخوانه وأبناء إخوانه وأعمامه، أبناء علي بن عبد الله بن عباس وبعض أحفاد العباس من غير عبد الله وإبنه علي.  فإستقبلهم بعض مؤيديهم خارج الكوفة وعلى رأسهم أبو سلمة الخلال، وهو أحد أكبر قادة الحركة، وقدموا لهم داراً للإقامة في 

الكوفة، وقد إستطاعوا كتمان خبر قدومهم أربعين يوماً.  وقد كان مروان وقت وصولهم إلى الكوفة في الجزيرة، كما كان إبن هبيرة في واسط، وولاة أمويين آخرين على مدن مختلفة في العراق.  ثم عرف بعض مؤيديهم بقدومهم إلى الكوفة، فبدأوا بالوفود عليهم، حيث قُدم عبد الله بن محمد السفاح على أنه الخليفة، وعندها سأل بعض الحضور لماذا لا يكون الخليفة من بني على بن إبي طالب، فكان الجواب أن هذا السؤال ليس أوانه. 

وفي اليوم التالي توجه السفاح وحاشيته، بعد أن لبسوا لباس الحرب إلى دار الإمارة، ثم ذهب إلى المسجد فخطب بالناس وصلى بهم، حيث كان اليوم يوم جمعة.  ولم يستطع إكمال الخطبة لوعكةٍ كان يعاني منها، فأكملها عمه داود.  وبعد الخطبة توجه إلى معسكر أبي سلمة الذي كان مرابطاً خارج الكوفة [1]. ثم ولى عمه داود الكوفة، كما أرسل قواته إلى مدن العراق المختلفة.  وبعد أشهر إنتقل إلى مدينة الهاشمية، التي بناها على الفرات ما بين الكوفة

والجزيرة[1]، ونزل بقصر الإمارة فيها[2].  ثم تحول، فيما بعد، إلى الأنبار في سنة 134.

وكان السفاح قد حقد على أبي سلمة لما إعتقده أنه يميل إلى تولية أحد العلويين الخلافة، فلما إستقر له الأمر، وأرسل أخاه المنصور إلى أبي مسلم يستشيره في أمر التخلص منه،  فإقترح عليه قتله دون تردد[3].  فطلب السفاح من أبي مسلم أن يبعث من يقتله وفعلاً ارسل من قتله بعد خروجه من مجلس السفاح، وأشاعوا أن الخوارج قتلوه[4].

ويذكر أن السفاح طلب من أبي سلمة أن يدفع أجرة الجمال التي جاؤوا عليها من الحميمة، فلم يفعل، إلى أن دفعها شخص آخر.  وهنا أود أن أتسائل حول تمويل ثورة العباسيين، فقد كان الخراسانيون يدفعون الخمس للإمام.  وهل يعقل أن هذا الإمام وعائلته لم يكونوا قد أعدوا جمالاً للسفر، كما لم يكونوا يملكون أجرة السفر، فربما كانت الرواية جميعها مصطنعة.  ولكن الواضح أن أبا سلمة كان يريد غير السفاح أن يتولى الإمامة بعد وفاة الإمام إبراهيم بن محمد [1]. 

وكان لجأ إلى السفاح جماعة من بني أمية، فقام بإستقبالهم إستقبالاً حسناً في بادئ الأمر، ولكنه تغير عندما ألقى أحد الشعراء قصيدة يحرضه عليهم، فطلب من أهل خراسان الدخول إلى المجلس وقتلهم، توفي السفاح سنة 136 في الأنبار ودفن فيها، وعهد الى أخيه المنصور، وبعده إلى إبن أخيه عيسى بن موسى.


المنصور ( 136-158)

تولى ابوجعفر عبد الله بن محمد المنصور الخلافة بعهدٍ من أخيه، وقد ولي خراسان في عهد السفاح وقدم على السفاح في السنة التي توفي فيها فطلب منه الحج بالناس، وتوفي السفاح بينما كان المنصور في الحج وأبو مسلم معه.  وقد بلغه خبر الوفاة بكتابٍ من عيسى، إبن أخيه، الذي كان في الأنبار، فخاف المنصور من عيسى أن يستفرد بالحكم، كما خاف من عبد الله بن علي، عمه، الذي بعثه السفاح على الصائفة، وشاور في أمره أبا مسلم، الذي طمأنه من أن عسكر عبد الله الخراسانيين يستمعون إليه أكثر مما يستمعون إلى عبد الله.

وصل المنصور الأنبار وسلمه عيسى الأختام والدواوين وبيت المال وإستقام له الأمر، ولكن عمه عبد الله بن علي خرج عليه.  فعندما وصل الخبر إليه بوفاة السفاح وهو في بلاد الروم، جمع قادة جيشه وقال لهم أنه عندما عزم السفاح على تنظيم الصائفة، تكاسل العباسيون عن القيام بها، فقال السفاح أن من يقود الصائفة فهو ولي عهدي، وبالتالي فإن له حق المطالبة بالخلافة، فأيدوه.  وعندما علم المنصور بخروج عمه عليه، أرسل إليه أبا مسلم على رأس جيش، حيث إنحاز جزءاً من جيش عبد الله إلى جانبه.  فإقتتل الجيشان لعدة شهور، وإنتهى بهزيمة عبد الله، الذي هرب، وأخذ اهله الأمان له من المنصور.   

ثم قام المنصور بقتل أبي مسلم، الذي قاد الحركة.  وقد بدأ المنصور يتغير مع أبي مسلم إثناء عودتهما من مكة، ومع وصول خبر وفاة السفاح.  فعتب عليه لأنه لم يسر معه وإنما سبقه.  كما عتب عليه أنه تأخر في بيعته، وإن لم يتأخر في عزاءه.  ومع هذا ولاه حرب عمه.  ولما إنتصر أبو مسلم على عبد الله بن علي، أرسل المنصور من يحوز غنائم الجيش المهزوم، فإستنكر أبو مسلم أن يُخوَّن، فإنحاز إلى خراسان دون أن يشق عصا الطاعة، فأرسل إليه المنصور، فخاف على نفسه ورفض الحضور. ولكن المنصور أصر عليه وطلب من أعمامه الكتابة له وأعطاه المواثيق حتى حضر، فقتله.  وكان أبو مسلم قد إدعى أنه من نسل سليط بن عبد الله بن عباس، وهذا أثار حنق المنصور عليه، ويقال أنه طلب يد عمة المنصور، فعد ذلك تطاولاً، فعاتبه على كل ذلك [1]

.  كما بلغ المنصور أن أبا مسلم كان يهزأ من رسائل المنصور عندما كان يستلمها، فحنق عليه. وكان أبو مسلم قيادياً محنكاً محبوباً، يعرف كيف يجعل من نفسه مفيداً للناس ومحبوباً من قبلهم، فعندما حج بذل مجهوداً كبيراً في خدمة الحجاج بمساعدتهم وإصلاح الطرق وتوفير المياه.  فكان الذكر له أكثر مما كان للمنصور، فخافه المنصور وحسده.  ولكنه ظل خادماً مطيعاً لبني العباس حتى مقتله. ويقال أن أحد المقربين قال للمنصور بعد قتله أبي مسلم "الآن أصبحت خليفة"[1].

ثم طلب المنصور عمه، الذي ثار عليه وعفا عنه، فحبسه وطلب من إبن أخيه وولي عهده عيسى أن يقتله.  بينما ذهب المنصور إلى الحج.  ولكن عيسى لم يقتل عبد الله بناء على نصيحة مقربيه وإحتفظ به.  فلما عاد المنصور من الحج، أوعز إلى أعمامه أن يطلبوا الشفاعة له منه، فطلبوا.  فعفا عنه، وهو يعتقد أن عيسى قتله.  فطلب من عيسى أن يحضره، فقال له عيسى لقد قتلته كما طلبت مني، فأنكر ذلك المنصور، وإتهم عيسى بقتله وطلب من أعمامه أن يأخذوا ثأر أخيهم من عيسى، فلما أوشكوا على ذلك أظهره عيسى لهم.  فعند ذلك أخذه أبو جعفر وقتله[2]. 

وثار عليه إبني عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، محمد وإبراهيم.  وكان العباسيون عند بدء دعوتهم، يدعون إلى الرضي من آل محمد.  وبعد نجاح الحركة، كان العلويون، من نسل الحسن والحسين وغيرهم من أبناء علي، يتنازعهم إحساساً بالفرح لزوال دولة بني أُمية وتولي بني عمومتهم الخلافة، وهذا الفرح يشوبه إحساساً أن أبناء عمومتهم إغتصبوا الخلافة منهم.  فكان هذا ما خلق حالة من إنعدام الثقة فيما بينهم، على الرغم من محاولة السفاح والمنصور إسترضائهم وتقريبهم.  وقد أدى تصاعد عدم الثقة، ضمن تسلسل وتتابع أحداث ومساجلات كثيرة إلى إختفاء محمد وإبراهيم، إبني عبد الله بن الحسن بن الحسن.  فأصبح هم المنصور الأكبر هو ظهورهما.  وكانا مختفيين، ربما خوفاً من المنصور، أكثر من أن يكونا يعدان لحركة ضد المنصور.  وهنا لا بد من ذكر رواية ذكرها إبن كثير، مفادها أن محمد بن عبد الله بن الحسن أخذ البيعة لنفسه في أواخر أيام مروان بن محمد، وكان من بين الذين بايعوه أبو جعفر نفسه[1].  فكان المنصور واثق من طموحاته السياسية، ولذلك أصر المنصور على حسم الموقف.  ويحمل بعض المؤرخين المنصور مسؤولية الفرقة بين العلويين والعباسيين، مثل المسعودي[2].  

وقع الصدام عندما ذهب المنصور للحج، وأخذ معه عبد الله بن الحسن وآخرين من إخوته وأبناء عمه في طريق عودته من المدينة إلى العراق.  عند ذلك ثار محمد بن عبد الله وبايعه أهل المدينة وأهل مكة.  وسار أخوه إبراهيم إلى البصرة، فبايعوه.  فسير إليهم المنصور جيشاً بقيادة عيسى بن موسى فهزمهم في المدينة وقتل محمد، ثم صار إلى البصرة فقاتلهم فهزمهم وقتل إبراهيم.

وكان الشاعر سديف بن ميمون، وهو من الشعراء الذين دعموا حركة العباسيين، قال في قصيدة يؤيد فيها بني الحسن:

فانهض ببيعتكم ننهض بطاعتنا     إن الخلافة فيـكم يا بني حسن

         وتنقضي دولةٌ أحـكام قادتـها     فيـها كأحكام قومٍ عابدي وثن

 فتطير أبو جعفر فطلب من واليه أن يأخذ سديفاً فيدفنه حياً، ففعل[1]. 

وكان المنصور قد عرض القضاء على أبي حنيفة النعمان، مؤسس المذهب الحنفي، فرفض.  فسجنه المنصور.  وكان من عادة بعض الفقهاء رفض مناصب يخافون على دينهم من توليها.  وكان الخلفاء منذ زمن عمر ينزعجون من هذا الرفض، فيجدون الأشخاص الأكثر إستقامة يمتنعون عن العمل في جهاز الدولة، بينما تجد أصحاب الطموح وطلاب الجاه والباحثين عن المال يقبلون على العمل بها ويسعون للحصول عليها.  وكان عمر يمتنع

عن إستخدام من يبادر إلى طلب الوظيفة.  وكان يقول لأصحابه " سلمتوني الخلافة ولم تعينوني ". لم يكتفي المنصور بالعتاب بل قام بسجن أبي حنيفة.  وفي السجن إلتقى أبو حنيفة مع مؤسس مذهب آخر، ولكن لديانةٍ أخرى، وهي اليهودية.  إلتقى بعنان بن داوود مؤسس ما عرف فيما بعد بمذهب القرائين، المتأثر بالديانة الإسلامية، بل بمذهب إبي حنيفة نفسه.  والذي لا يزال له أتباع.  وكان عنان قد سُجن بناء على طلب من الجالية اليهودية الكبيرة العدد في العراق، بحجة أنه يسبب إزعاج وفرقة في أوساط الطائفة اليهودية. وقد نصحه الإمام أبو حنيفة أن يكتب إلى المنصور طالباً إخراجه من السجن على أن يرحل عن العراق، ففعل. 

وأتباع مذهب القرائين Karaites

، المشتق إسمه من العربية وليس من العبرية، لا يقرون بالتلمود.  وهم يتشددون في السبت أكثر من غيرهم، فيحرمون إيقاد النار والجماع في أيام السبت، بينما يسمح الآخرون ببقاء النار (والنور) مشتعلة من اليوم السابق.  والملفت والجديد في عقيدة عنان هو تقبل الديانتين المسيحية والإسلامية والإعتراف بمؤسسيهما.

وفي سنة 146 باشر المنصور ببناء مدينة بغداد، وقد بدأت الفكرة بعد ثورة الراوندية في مدينة  الهاشمية، وهم جماعة كانوا يؤيدون أبي مسلم ويعتقدون بتناسخ الأرواح، فقام المنصور بإعتقال بعضهم، فثاروا وهاجموا قصر الخلافة.  حيث كان وصول جموعهم إلى القصر سهلاً وبدون عوائق، مما إضطر الخليفة بنفسه أن يستخدم سيفه ويحارب.  وبعد القضاء على الحركة قرر المنصور ترك الهاشمية، ولم تكن الكوفة إحدى خياراته، لطباع أهلها وتاريخهم المطبوع بالمواقف المتقلبة.

وكان أتباع الراوندية يؤلهون المنصور، فقاموا بالطواف حول قصر الخلافة، الذي أمر بإعتقال عدة مئات منهم، فقاموا بمداهمة السجن وإطلاق سراحهم، ثم هاجموا القصر.   

وأثناء القتال في الهاشمية ظهر بصورةٍ دراماتيكية معن بن زائدة، حيث شارك في القتال متلثماً، وأظهر براعة في القتال لدرجة لفتت نظر المنصور فسأله من هو.  فقال أنه معن بن زائدة، وكان معن قد حارب مع إبن هبيرة ضد المسودة، فغفر له المنصور حيث

أصبح من أكبر قادته العسكريين.  ومعن من قبيلة شيبان العراقية، وكان من المضروب بهم المثل بالكرم.

سافر المنصور إلى الموقع المقترح لعاصمته، حيث سأل أهل المنطقة عن مناخها، فأجابوه بما يشجع على بناء مدينة في هذا الموقع، لقربه من عدة أنهار قابلة للملاحة، متصلة باقاليم عديدة.  وقد كان في هذا الموقع، أو بالقرب منه قرية يعقد فيها سوقاً أسبوعية وتحمل إسم بغداد، والذي يعني حارس البستان أو ما شابه، كصاحب البستان مثلاً، باللغة الفارسية .

وقد طلب من الإمام أبي حنيفة النعمان أن يشرف على البناء، فقد كان المنصور قد أقسم أن يعمل له أبو حنيفة، ولما رفض القضاء، قبل المنصور عملاً آخر.. أي عمل، فعمل الفقيه مراقب بناء وحاسب كميات، فقد كان مسؤولاً عن عد الآجر.  كما أشرف ايضاً على بناء بغداد الحجاج بن أرطأة.  وكان المنصور يشرف بنفسه، وقد كان صعب المراس، فقد كان يطلب إعادة بناء جزء من مبنى لعدم رضاه عنه، وكان يفاوض على تكلفة إعادة البناء ويصر أن تكون أقل [1]. 

وقد جعلها المنصور دائرية بسورين وفي مركزها قصر الخلافة.  كما جعل لها بوابتين.  وطلب تخطيطها بالرماد لكي ينظر كيف يكون شكلها، وبعث يطلب مساعدة الأقاليم بالعمال ومواد البناء المختلفة.

وبدأ العمل بقول المنصور "بسم الله والحمد لله والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.. إبنوا على بركة الله" [2].  وقد توقف البناء نتيجةً لثورة محمد المهدي، حيث سار المنصور إلى الكوفة.  وإستأنف البناء حال إنتهاءه من حربه، حيث عاد إلى موقع البناء.  وقد فكر في هدم آثار المدائن القريبة للإستفادة من آجرها، ولكنه وجد أن تكلفة الهدم أعلى من تكلفة صب الآجر الجديد.  وقد إحتوت المدينة على مسجدٍ ودور للقادة ومعسكرات للجيش، وقد أُخرجت الأسواق إلى خارج السور.  وهذا يدلل على

أن المنصور قصد أن يبني حصناً يحمي نظامه بالدرجة الأولى، وليس حاضرة للدولة الممتدة ما بين المحيط الأطلسي وسهول شمال الهند. 

لقد كلف بناء المدينة 4835000 درهم، من الواضح أن عمل السخرة لم يستخدم في بناء المدينة، فقد كان العاملون يتقاضون أُجورهم فالبنّاء الأستاذ كان يتقاضى يومية مقدارها قيراط، بينما بلغت يومية الروز كاري (عامل المياومة) حبتين[1].

لقد أطلق المنصور إسم مدينة السلام على عاصمته، ولكنها، مثل القسطنطينية، غلب عليها إسم قرية عتيقة كانت مكانها، فغلبت بغداد، القرية الفارسية القديمة على دار السلام، كما غلبت بيزنطة، القرية الإغريقية القديمة على القسطنطينية تحت وقع إملاءات جغرافية وثقافية.

وقد أصبحت بغداد من أكبر وأعظم مدن العالم.  وقد زارها الرحالة الأندلسي اليهودي بنيامين التوديلي، الذي قال عنها في كتابه "..

وهناك الملك العظيم، الخليفة العباسي الحافظ يتبوأ مكانه وهو عطوف على بني إسرائيل، ويعرف جميع اللغات ومن بينها العبرية ويأكل من عمل يده، وهو صادق وأمين.. وفي قصر الخليفة مباني عظيمة من الرخام والفضة والذهب، كما يوجد أبراج مليئة بالكنوز والمنسوجات الحريرية والأحجار الكريمة". ومع ما في هذا الوصف من مبالغة فإن له دلالات واضحة على عظمة المدينة.      

كان العهد لعيسى بن موسى من بعد المنصور، ولكن المنصور غيره لإبنه الهادي، على أن يكون لعيسى من بعده.  وقد وافق عيسى على ذلك، بعد ضغطٍ شديدٍ من المنصور.

توقفت الصوائف منذ نهاية حكم مروان.  وكان الإمبراطور قنسطنطين الخامس يحكم في بيزنطة في الفترة الانتقالية بين الدولتين، الأموية والعباسية.  وكان قد وجه حملة إستعاد بها مدينة مرعش في سنة 129 (747 م)، وهي مسقط رأس أبيه، ليو الإيسوري.  كما وجه حملة أخرى سيطر فيها 

على مدينة ملطية سنة 133 (752 م)[1].  وفي كلتا الحملتين قام الروم بتهجير أتباعهم من هذه المدن إلى البلقان لتقوية الوجود الروماني هناك.  وكرر ذلك قنسطنطين في سنة 138هـ ( 756م)، حيث أخذ المدينة عنوة وخرب سورها، ولكن العباس بن محمد غزا الصائفة وأصلح سورها ورد إليها أهلها وأنزل بها الجند.  وقد إنشغل قنسطنطين بملاحقة الإيقونيين وإضطهادهم، ولكنه أيضاً كان جندياً

جيداً وإدارياً ناجحاً، وقد إنشغل في هذه الفترة أيضاً في حربه مع اللومبارد، الذين إستطاعوا إنتزاع رافينا من الإمبراطورية [1].

وفي سنة 140 غزا بالصائفة عبد الوهاب بن ابراهيم، حيث سار لمواجهة قنسطنطين في جيشٍ كبير بلغ قوامه مائة ألف، فلما سمع قنسطنطين بحجم الجيش تجنبه.  ثم توقفت الصوائف في فترة إنشغال المنصور بأبناء حسن بن حسن، التي بلغت ست سنوات.

وفي سنة 146 غزا بالصائفة مالك بن عبد الله الخثعمي.  وكان يقال لمالك ملك الصوائف.  وفي سنة 149 غزا بالصائفة العباس بن محمد.  وفي 154 غزا زفر بن عاصم الهلالي، وبعدها طلب إمبراطور الروم قنسطنطين الخامس الصلح على أن يؤدي الجزية، وعلى ما يبدو أن الصلح لم يتم لأن العامين القادمين شهدا صوائف جرى فيهما قتال.

لقد حقق المسلمون إنتصاراً تاريخياً في العام 751 م (133 هـ)، في السنة الثانية لقيام الدولة العباسية، على الصينيين في معركة

طلس، والتي دارت على ضفاف نهر طلس في تركستان[1].  هذه المعركة التي حدثت في زمن الإمبراطور الصيني زوان زونج من أسرة تانج  الذي كان عهده عصراً ذهبياً، غيرت التاريخ الصيني، حيث شجع ذلك الكثير من الدول التابعة للإمبراطورية الصينية على الثورة ضدها.  ولكن من أهم ما نجم عن المعركة وقوع عدد كبيرمن الأسرى في أيدي المسلمين بينهم عدد من عمال صناعة الورق، حيث نقلوا هذه الصناعة إلى العالم الإسلامي.  وكان الجيش الإسلامي الذي خاض المعركة قد إنطلق من خراسان من قبل  أبي مسلم.

توفي المنصور سنة 158 في طريق عودته من الحج.  حيث حكم إثنتين وعشرين سنة.  لقد إستطاع  السفاح والمنصور تثبيت قواعد الدولة رغم كثرة ما عصف بها من مخاطر وتحديات في بداية وجودها.  وهذا غير معتاد، فعادةً ما تُقابل السلالات الحاكمة الجديدة بالترحاب والإعجاب، فبعد أن إستتب الأمر لبني مروان نعموا بفترةٍ طويلةٍ من الإستقرار.  ولكن السفاح والمنصور واجها ثورتين كبيرتين في بداية حكمهما، فقد كانا يسارعان إلى إستعداء المنافسين المحتملين ويصعدون المواقف،  ويلجأون سريعاً إلى سفك الدماء.  لقد سبب مقتل أبي سلمة وأبي مسلم إلى فقدان مصداقية الخلافة العباسية، الأمر الذي كلفهم الكثير.  كما أن الخلافات مع أبناء عمومتهم، من العلويين وحتى العباسيين هزت هيبة هذا البيت، الذي إنتظر الكثيرون، لأربعة أجيال، وصولهم إلى الحكم.  كما أن تغيير ولاية العهد ترك آثاراً سلبية على العائلة الحاكمة نفسها، فتركها وإنعدام الثقة يسيطر على العلاقات فيما بين أفرادها. 

لقد ترعرع السفاح والمنصور على خطة سرية نفذها بحنكة وروية أبوهما وأعمامهما.  وهذه الخطة بدأت حياكتها قبل ولادتهما، ونشئا عليها، فأصبح الشك والتآمر جزءاً من تكوينهما.

لقد كان المنصور أول خليفة تُرجمت له الكتب من اللغات الفارسية والسريانية واليونانية والهندية [1]

.  وكان فقيهاً يرتحل طلباً للعلم، كما كان مولعاً بالتنجيم، وربما كان ولعه بالتنجيم الدافع الأساسي لإقباله على الكتب المترجمة، وكان بين حاشيته نوبخت وإبراهيم الفزاري المنجمين[1]. 

وقد أُشتهر المنصور بالبخل، وكان يستمع للشعراء ولكنه لم يكن يجزل لهم العطاء، كما كان يفعل بنو أمية، أو كما سيفعل حفيده هارون الرشيد وغيره. وكان أعطى أحد الشعراء بعض المال، فلما إنصرف الشاعر صاح به طالباً منه أن يتأنى بإنفاق هذه النقود فإنه لن يحصل منه على غيرها. فأجابه الشاعر، دون تردد، قائلاً أنه " سيقابله بهذه النقود على الصراط وعليها خاتم الجهبذ " [2].

المنصور وعبد الملك

يوجد شبه كبير بين عبد الملك بن مروان وأبو جعفر عبد الله المنصور.  فكلاهما كانا فقيهين، كانا يطلبان العلوم الإسلامية، عبد الملك في المدينة في حلقات عروة بن الزبير، وأبو جعفر في تجواله على المدن التي تعج بحلقات العلم، مثل البصرة والكوفة والمدينة.  وكلاهما مارسا الحكم بكثيرٍ من القسوة غير متسقة مع خلفيتهما.  وقد عاش كل منهما ثلاث وستين سنة وحكما مدداً متقاربة. فقد سأل الفقيه عروة بن الزبير عبد الملك بعد أن أصبح خليفة " هل شربت الطلاء من بعدي يا أمير المؤمنين ؟"، فأجابه " نعم وقتلت النفس التي حرم الله إلا بالحق " [1].  ومارس أبو جعفر القتل السياسي.  وقد كان كلاهما، كفقيهين، يعلمان أن حكم الإعدام في الشرع الإسلامي يجوز في ثلاث حالات، والمعارضة السياسية ليست واحدة منها.  ووجه كل منهما بمعارضة عائلية وسحقها بدهاء شديد ولم يغفر للمتآمر الرئيسي.  كما ثار على كلٍ منهما قرشي، الأول زبيري، والثاني علوي.

لقد جاء كلٌ منهما دون بذل جهد يتناسب مع حجم الحركة التي تجيء بسلالة جديدة الى الحكم في العادة.  فقد قاد حركة المروانيين مروان بن الحكم وساعده إبنه عبد العزيز، وحكم مروان لفترة قصيرة ومات عبد العزيز في حياة أبيه فآلت الأمور لعبد الملك، الذي كان في المدينة ويسمى حمامة المسجد.  فحكم وكأنه تلقى تدريباً سياسياً طويلاً.  ولم يكن أبو جعفر المنصور قائد حركة العباسيين، وإنما قادها عمه وأخوه، وإقتصرت مشاركته على قيادة جيش للإستيلاء على إحدى مدن العراق.  وقد كان الخليفة الثاني، بعد حكم قصير للحاكم الأول، وأظهرا دهاءاً كبيراً. 

[ نهاية الجزء الاول من الفصل الرابع ] 

 



[1] العقد الفريد.

 



[1] مروج الذهب ، المسعودي ج 2.

 

[2] العقد الفريد.  والجهبذ هو خبير النقود الذي يقيم معدنها.

 



[1] تاريخ الخلفاء.

 



[1] تاريخ أوربا العصور الوسطى، العريني.

 



[1]Byzantine Empire , C. Oman.

 



[1]إبن خلدون.



[1]إبن خلدون.

 



[1]When Baghdad Ruled The Muslim World, Hugh Kenedy.

[2]إبن خلدون.

 


[1] العقد الفريد ج 5.  ويقال أنه قتله على قصيدةٍ أخرى.



[1] إبن كثير.

[2] مروج الذهب ، المسعودي ج 2.



[1] إبن كثير.

[2]ابن خلدون.

 



[1] البدايو والنهاية.

 




[1] الكامل في التاريخ، إبن الأثير.

 


[1]الروض المعطار.

[2]الكامل.

[3] إبن كثير.

[4]إبن خلدون.



[1] ابن خلدون.

 


[1]الكامل.

 


[1] إبن خلدون ، وابن كثير.

 


[1] إبن كثير.



[1]إبن خلدون.



[1]الطبري.

 



[1]إبن خلدون.




[1]تاريخ ابن خلدون ج 3.

 


[1]العقد الفريد.

[2]الروض المعطار.

 


[1]العقد الفريد.

 

 
 

 


تعليقات

لا يوجد تعليقات

الإسم 
البريد الإليكتروني (ليس للنشر)
التعليق
هل توافق على الانضمام لمجموعتنا البريدية؟
  أرسل

 

Counter