كتاب " نحن وأوربا " - الجزء الثالث - الفصل الأول - حسم الصراع العقائدي في أوربا
 
 


 

الفصل الأول

 

حسم الصراع العقائدي في أوربا

 

 

التوسع الأوربي

شهد منتصف القرن الحادي عشر توسعاً أوربياً أخذ أبعاداً متعددة، حولت أوربا إلى كيان موحد قوي وكبير.  فقد بدأ عدد السكان بالتزايد، وتحسنت نوعية الإنتاج الزراعي من خلال تحسن وسائل الإنتاج وإستصلاح مزيد من الأراضي الزراعية على حساب الغابات والمستنقعات.  وتنصرت شعوب أوربية كثيرة، مثل السكسون والصرب والفايكنج.  كما تحول شعوب أخرى من الأريوسية إلى الكاثوليكية.  وبدأ في هذه الفترة محاولات جادة لإستعادة الأراضي الواقعة بأيدي المسلمين في الأندلس وجنوب إيطاليا وصقلية وجزر المتوسط الأخرى.  وهكذا اصبحت أوربا قارة واسعة بعد أن كانت محصورة بشريطٍ من الأرض محاذياً للبحر المتوسط حكمته إمبراطورية بعد أخرى لعشرات القرون [1] .    

 

تحول القراصنة إلى التجارة

لقد أظهر الفايكنج مزيجاً عجيباً من البدائية والتحضر ومن الخشونة والتهذيب.  وهذا مما ساعدهم على التحول الكلي إلى أمة متحضرة منسجمة مع محيطها، وقد ساعد على هذا التحول إنتشار المسيحية في أوساطهم، وإحتكاكهم بالأمم الأوربية الأخرى.  ولم يتخلص الفايكنج من " تبربرهم " تحت تأثير الحضارة الرومانية، التي نبذتهم قرون طويلة.

وجاء أول إحتكاك للفايكنج بالمسيحية من خلال تعاملهم التجاري مع جيرانهم الفريزيين ، الذين سبقوهم إلى التنصر .  ثم أخذت البعثات التبشيرية تتردد على الدنمارك والمناطق الإسكندنافية الأخرى ، حيث يعيش الفايكنج .  حيث أرسلت عدة بعثات في بداية القرن التاسع.  وفي زمن لويس التقي بن شارلمان نشطت البعثات التبشيرية، كما عمل على إقناع ملك الفايكنج هارولد على إعتناق المسيحية، وفعلاً تم تعميده مع عددٍ كبيرٍ من أتباعه سنة 826 م.  وذهب القديس أنكر إلى الدنمرك لمواصلة عملية تنصير الشعب الدنمركي، ومن هناك عبر البحر إلى السويد حيث قام بأعمال موفقة، وعاد سنة 831 م، حيث أصبح رئيس أسقفية هامبرج، التي أصبحت قاعدة لنشر المسيحية في شمال اوربا.  ولم يقتصر إنتشارها بين الدنمركيين والسويديين، بل تخطاهم إلى النرويجيين.  وقد كان لتحولهم إلى المسيحية أثرٌ كبيرٌ على تاريخ أوربا [2] ، فكان من الممكن أن يتحولوا إلى  الإسلام من خلال إحتكاك الدنمركيين بالأندلسيين، الذين كان لهما عدوٌ مشترك وهو الفرنج.  أو من خلال إحتكاك السويديين مع المسلمين البلغار في روسيا.       

ومع تحولهم عن القرصنة كنشاط أساسي، أخذوا يستقرون في أماكن أقرب إلى الجنوب، غلب عليهم إسم النورمان، رجال الشمال، وهذا الإسم ليس جديداً تماماً، فقد كانوا يُعرفون به أيضاً.  وقد إستقر النورمان في نورماندي، وهو إقليم واسع في غرب فرنسا.  ولم يكتفوا بهذا الوطن الجديد، ليس لصغر مساحته، بل لأنهم شعب يملك دينامية عالية.       

لقد مارس الفايكنج القرصنة، وكانوا ينشرون الرعب حيثما ذهبوا.  وقد غطوا أوربا كلها، بحارها وأنهارها.  وعندما تحولوا إلى التجارة، أتقنوها أيضاً.  وحققوا ثروات واسعة كقراصنة وكتجار، وهم شعب محب للفخامة والثروة.

هاجم الفايكنج باريس سنة 885 م وحاصروها لمدة عشر شهور بنحو سبعمائة سفينة من النهر واربعين ألف مقاتل من البر، فعجزوا عن فتحها، ولكنهم حصلوا على 700 رطل من الفضة من الملك شارل السمين ، الذي سمح لهم أن يمضوا الشتاء في برجنديا، فإستباحوها.  وعلى الرغم من حصولهم على فدية كبيرة، فإن عجزهم عن دخول باريس هز مكانتهم بنظر شعوب المنطقة. 

وفي العام 891 م تلقوا ضربة قوية على يدي الفرنجة الشرقيين ، بقيادة ملكهم أرنولف، ولكنهم حافظوا على قوتهم.  فتوجهوا إلى فرنسا، حيث إستقروا في المناطق الساحلية وحول مصب نهر السين .  ولما يئس شارل الساذج ( البسيط ) من إخراجهم من بلاده ، لجأ إلى التفاوض معهم.  فأعطاهم ما أصبح يُعرف بنورمانديا مقابل دخولهم في المسيحية ، وأن يصبح زعيمهم هرولف دوقاً عليها وتابعاً للملك.  فقبل الشعب المنهك خيار الإستقرار .  ومن هذه اللحظة أصبحوا يعرفون بالنورمان ( وكذلك نورثمان ونورسمان )، أي رجال الشمال.  وقد أثبتوا أنهم شعب معطاء قادر على التكيف، يتصف أبناءه بالشهامة والرجولة والقوة [3] .    

     وخلال أقل من قرنين كان ملوك وأمراء ودوقات من النورمان يحكمون في إنجلترة ونورماندي وجنوب إيطاليا وصقلية وشمال سوريا، وحاول أحد رجالهم الذين كانوا يحاربون مع الدولة البيزنطية أن يؤسس إمارة في وسط الأناضول ، ولكن بيزنطة وقفت في وجه مشروعه.

 

التحول عن الآريوسية

إنتشر المذهب الآريوسي في الشرق، وكان يبدو وكأنه مرفوضاً أوربياً، حيث تم رفضه في مجمع نيقيا سنة 321م ، من قبل جبهة تزعمتها روما وبيزنطة متحدتين .  ولكن سرعان ما إنتشر المذهب بين بعض القبائل الجرمانية على يدي مبشر آريوسي إسمه أوفيلاس، وهو قوطي الأصل حيث نجح في تحويل القوط إلى المسيحية على المذهب الآريوسي.  وكذلك تحول اللومبارد والوندال.  وقد عانى الكثيرون خلال القرون الثلاثة التالية من هذا الإختلاف المذهبي، وإن كان التسامح دارجاً لمعظم الوقت.  ومارست الإمبراطورية البيزنطية الإضطهاد ضد الآريوسيين ، بينما كانوا يحكمون في روما ، مما حدا بملك القوط الآريوسيين أن يطلب من البابا التدخل لدى الإمبراطور البيزنطي ليتوقف عن إضطهاد الآريوسيين.  كما قام الوندال الآريوسيون بإضطهاد الكاثوليك في شمال إفريقيا، أثناء حكمهم لها.

ومع بداية القرن الثامن، في الوقت الذي كان المسلمون يطرقون أبواب أوربا، شرقيها وغربيها، تم تحول الآريوسيين إلى الكاثوليكية والأرثودكسية.

بدأ تحول الوندال بعد هزيمتهم في شمال إفريقيا في العام 533م على يدي القائد البيزنطي الشهير بليزاريوس، حيث تم وضع نهاية لدولتهم في شمال إفريقيا، وتحولت إلى ولاية بيزنطية ثانيةً.  وقد إنفرط عقد الشعب الوندالي، ويُعتقد أن غالبيتهم عادوا إلى القارة الأوربية، وهذا ليس أكيداً، ولكن الأكيد أنهم تحولوا إلى الكاثوليكية، وتبنوا لغة وثقافة المنتصر، وأختفوا كهوية مستقلة.

كما تحول القوط الشرقيون بعد هزيمتهم على يدي نفس القائد البيزنطي بليزاريوس في العام 562م.  حيث وضع حداً لدولتهم في إيطاليا.  وإنفرط عقد الشعب القوطي على أثر هزيمتهم.  فذابوا بالشعب الروماني وتبنوا لغته وثقافته، كما تلا ذلك تبني المذهب الكاثوليكي.

أما القوط الغربيين، فقد كانوا يحكمون في إيبيريا، حيث كان الشعب على المذهب الكاثوليكي، مما خلق فجوة كبيرة بين الحاكم والمحكوم، على الرغم من عدم وجود إضطهاد منظم ضد الكاثوليك.  ولكن مع نهاية القرن السادس أخذ القوط في التحول إلى الكاثوليكية بعد تحول ملوكهم.  وعندما عبر المسلمون إلى إيبيريا سنة 711م كان الإسبان جميعاً كاثوليكيين.

أسس اللومبارد دولتهم في شمال إيطاليا، وكانوا على المذهب الآريوسي.  وقد غزاهم شارلمان ووضع نهاية لمملكتهم.  وبعد هزيمتهم بدأوا بالتخلص من خصوصياتهم الثقافية بما في ذلك عقيدتهم المذهبية.  وعلى عكس القوط والوندال حافظ اللومبارد على هويتهم الوطنية على الرغم من ذوبانهم في محيطهم السكاني، فبقيت مدن شمال إيطاليا تسمى المدن اللومباردية لزمنٍ طويل.

لقد ساعد تحول الشعوب الجرمانية إلى الكاثوليكية على تقويتها وتعزيز وحدة القارة الأوربية ووحدة العالم المسيحي.             

 

إستثناء المسلمين

بإستثناء هجرة الآريين إلى شمال الهند وإيران، كانت الهجرات البشرية تتجه إلى أوربا هدفاً للإستقرار.  وقد جاءت معظمها من الشرق؛ الهون والآفار والبلغار والمجر وغيرهم.  وكان هناك هجرات داخلية جاءت جميعاً من الشمال، جرمان ونورمان وسلاف .  وهناك هجرة واحدة جاءت من الجنوب؛ وهي هجرة المسلمين، عرب وبربر ( سبقهم الفنيقيون والقرطاجيون، الذين كانوا غزاة أكثر مما كانوا مهاجرين ).  لم تنفرد الهجرة العربية بكونها الوحيدة القادمة من الجنوب ، وإنما بكونها هجرة كانت تحمل رسالة.  ولذلك إستوعبت أوربا جميع الهجرات ما عدا هجرة المسلمين، التي إستمرت بمقاومتها حتى لفظتها.

كما لم ينجح المسلمون في أن يتحولوا إلى قوة أوربية، رغم الفرص الكثيرة التي سنحت لهم ،  بحيث يدخلوا في تحالفات أوربية ويتفاعلوا في التطورات المجتمعية الآخذة بالتفاعل ويساهموا في نهضة القارة .  لقد تقوقعت أوربا في وجه الزحف الإسلامي وجعلت من ذلك أمراً صعباً، ومع هذا فقد كانت هناك فرص عديدة أضاعها القائمون على الأمر.

فمنذ وطئت أقدام المسلمين أرض إسبانيا، وجدوا أن بعض القوى فرحت بقدومهم، لتخليصهم من الحكام المتسلطين الذين ينتمون إلى شعب آخر غريب عنهم ، وكان شعب الباسك من بين الذين رحبوا بإنتهاء حكم القوط .  وكان الباسك معارضين للحكم القوطي .  ولم يتدخل العرب في شؤونهم الداخلية ، فأعطوهم نوع من الحكم الذاتي، وبقوا على الحياد لفترة طويلة.  ولم يرق ذلك لشارلمان عندما هاجم الأندلس بجيشه، فقام بهدم سور حاضرتهم أثناء إنسحابه، مما جعلهم يهاجمون مؤخرة جيشه.  لم يفشل المسلمون مع الباسك لأنهم، في الأندلس وفي غيرها، إعتادوا أن لا يتدخلوا في الشؤون الداخلية للفئات التي تنتهج نهجاً سلمياً تجاههم، فكانوا يعقدون معاهدة ويلتزمون بها لفترة طويلة.  ولكنهم فشلوا في إغتنام فرصة إقامة علاقة مع دوقية أكيتانيا، الواقعة في الأراضي الفرنسية  والتي كانت مستهدفة من قبل دولة الفرنجة في زمن شارل مارتل.  ففي زمن عبد الرحمن الغافقي، والي الأندلس، عقد حاكمه على المناطق الجبلية الحدودية، وإسمه عثمان هدنةً مع دوق أكيتانيا أودو وتزوج إبنته.  ولكن عبد الرحمن لم يقر الهدنة لأنه كان عازماً على غزو بلاد الغال .  ولما لم يذعن عثمان قام بمطاردته في جبال البرانس إلى أن تم قتله وسبي زوجته وإرسالها إلى دمشق.  فطلب أودو مساعدة شارل مارتل، الذي إشترط أن تتبع أكيتانيا إلى دولة الفرنج مقابل مساعدتها ضد المسلمين.  وفي تلك السنة خسر المسلمون بلاط الشهداء ، ولم تكن أكبر خسائرهم، بل إن ضياع  فرصة إقامة تحالف مع قوة أوربية كان ممكن أن تفتح أبواب أوربا للمسلمين.

أجرى حكام الأندلس إتصالات مع وثنيي أوربا، مثل الدنمركيين.  فقد أرسل الدنمركيون وفداً إلى قرطبة حيث تم عقد معاهدة، ورافق موفد أندلسي الوفد الدنمركي.  إختار أمير قرطبة الحكم الثاني الشاعر المعروف الغزال لهذه المهمة، فسافر مع الدنمركيين العائدين إلى بلادهم في سفينتهم، التي ابحرت بمحاذاة السواحل الأوربية الغربية إلى أن وصلت أحد موانئ الدنمرك ( دنمرقة ).  وفي الدنمارك أمضى الشاعر الغزال سنة كاملة.  وقد نجم عن الزيارة معاهدة سلام، دامت مابقي موقعيها على قيد الحياة.  ولم تكن الأندلس والدنمرك جارتان، حتى يكون لأحدهما مطامع إقليمية في بلد الآخر، كما لم تكن الدنمرك محكومة بالعداء الأوربي للمسلمين، فلم تكن قد تنصرت بعد.  ولذلك أعتقد أن نتائج تبادل الوفود بين البلدين كان من المفروض أن تكون أفضل مما حصل.

وعندما إنتصر المسلمون في جنوب إيطاليا على الإمبراطور الألماني أوتو الثاني، إستغل الصرب الفرصة وعادوا إلى وثنيتهم وإستعادوا إستقلالهم وطردوا ممثلي الإمبراطورية من أراضي واسعة واقعة شرق بحر الأدرياتيك.  ولم يحدث تنسيق مع المسلمين القابعين على الساحل الغربي للبحر نفسه، وهو بحر ضيق، قليل العرض.    

وطبعاً لا أقول ما قاله رومان لول وغيره من مثقفي أوربا في العصور الوسطى وحتى العصور الحديثة عن محاولات تحالف الصليبيين مع المغول، فالوضع متشابه، فلا أتمنى لو أن مسلمي الأندلس تحالفوا مع وثنيي الدنمرك ضد مسيحيي الفرنج.  فهذا لا يجوز شرعاً حسب ما نفهمه من سورة الروم، وفرح المسلمين بنصر الروم المسيحيين على الفرس الوثنيين.  وهذا ما حدث على الصعيد العملي ، ففي تاريخهم الطويل، لم يتحالف المسلمون مع قوى وثنية ضد قوى مسيحية،  ولا أظنهم سعوا لذلك.  وقد كان هناك العديد من الفرص لفعل ذلك، مثل إمكانية تحالف جيش مسلمة مع البلغار سنة 717م أثناء حصار القسطنطينية الثاني.  لقد تمنى رومان لول، ومفكر أوربي من القرن الثالث عشر، أن المغول تحالفوا مع الصليبيين ودخلوا الدين المسيحي ( على المذهب الكاثوليكي ) للقضاء على الإسلام .  وهذا يعني أن القضاء على الإسلام كان هدفاً لأمثال رومان لول، وطبعاً لم تكن أوربا جميعاً تفكر مثل هذا المتعصب.  كما أني أجزم أن القضاء على المسيحية لم يكن يوماً هدفاً لقائد مسلم.

عقدت إمارة صقلية معاهدة مع نابولي.  وإستمرت هذه المعاهدة لسنوات طويلة، أفاد منها الطرفين سياسياً وإقتصادياً.  ولكن سرعان ما نجد نابولي ضمن تحالف يهدف إلى إخراج المسلمين من جنوب إيطاليا.  لقد تعرضت نابولي لضغط شديد من قبل البابوية ومن قبل دول أوربية عديدة لنقض المعاهدة والإنضمام لهذا التحالف.  ولكني أعتقد أن ما ساعد على إفشال هذه العلاقة هو ما نُسب من تصرفات إلى جيش صقلية والتي أثارت عداء ونقمة المسيحيين جميعاً، بل وإشمئزاز المسلمين أيضاً، مثل نهب الكنائس والمقدسات، كما فعلوا في حصار روما.  وهذا ما زاد النفور منهم. ولو نجحت إمارة صقلية في هذه العلاقة لكان لها دور عزز مكانتها ضمن الصراعات المعقدة الدائرة في جنوب إيطاليا. 

وقد أُضيف إلى التجاوزات التي قد تكون حدثت فعلاً ، مجموعة من الإشاعات والقصص المختلقة التي كانت تسري في أوربا لطرافة صياغتها، مثل قصة إغتصاب صبي إسباني من قبل الخليفة عبد الرحمن الناصر، وقصة القائد المسلم الذي كان يمتع نفسه كل يوم بالقضاء على عذورية راهبة، ويفعل ذلك في مذبح الكنيسة، وكذلك قصة رولاند ، فتى العشيرة، الذي نُسب قتله لجيش إسلامي.  لقد تسنى إثبات بطلان الرواية الأخيرة، حيث يقر المؤرخون الأوربيون بأن قتل رولاند تم على يد الباسك.  فكيف يمكن إثبات بطلان القصتين الأخريين وعشرات القصص الأخرى التي رسمت صورة بشعة للمسلم والعربي، مما نجم عنه خفض قابلية إقبال الأوربيين على الإسلام، بل أخر إقبالهم على العلوم التي تداولها المسلمون مما تسبب في تأخير نهضة أوربا عدة قرون.  لقد أضاع المسلمون والمسيحيون فرص عديدة لتفهمهم وتقربهم من بعض.  فكان من الممكن للتقارب الذي حصل بين الدولة العباسية والدولة الكارولنجية في القرن الثامن أن يوظَف إيجابيا لمزيد من تفهم أتباع الدينين العظيمين لبعضهما.  ولكنه كان تقارباً كيدياً يهدف إغاظة قرطبة وبيزنطة لا أكثر.                                          

 

رفض الإسلام

لقد حقق الإسلام نجاحاً مذهلاً في الإنتشار في القرن الأول للهجرة .  فقد شهدت الشام والعراق وفارس ومصر وشمال إفريقيا تحولاً جماعياً في دين سكانها، أخذ شكل عملية تدريجية بدأت في الأيام الأولى للفتوح ولم تنتهي، إذ لا يزال ليومنا هذا جزءٌ من سكان هذه الأقاليم بقي على دين أجداده.  وهذا بحد ذاته يشير إلى أن التحول لم يكن قسرياً.

في الشام لم يكن التحول مقتصراً على العرب وعلى الشعوب السامية التي تقطن سوريا، بل تعدى ذلك إلى الروم الذين كانوا يحكمون سوريا ويستوطنونها.  ففي المراحل الأولى للفتح أسلم حاكم بصرى .  الذي نعته المؤرخ الإنكليزي المتعصب بالخيانة [4] .  وقد ذكر الواقدي أنه ساهم بالفتوحات.  وقد برز فيما بعد الشاعر أبو تمام بن أوس الطائي، وقد كان من أصول يونانية وإسم أبيه أوشا فحرفه إلى أوس ونسب نفسه إلى طي.

وفي مصر تحول أكثر من 90% من سكانها  إلى الإسلام، وقد إنتشر بدايةً في الوجه البحري، ثم أخذ ينتشر في الصعيد.  أما النوبة فقد إحتاجت لأكثر من سبع قرون لتكتمل أسلمتها.  فالنوبة لم يتم فتحها، وإنتقل الإسلام إليها من خلال هجرة قبائل عربية وإستقرارها وتزاوجها مع السكان النوبيين، الذين تقبلوا الإسلام واللغة العربية.   لقد سبق تحول النوبة إلى الإسلام إنضوائها تحت راية الدولة الإسلامية .

أقبل البربر على الإسلام بسرعة كبيرة.  فقد إنتشر بينهم خلال العقود الأولى بعد الفتح، كما أقبل كثيرٌ منهم على اللغة العربية.  وقد لعب البربر دوراً هاماً في نشر الإسلام وفي الحفاظ عليه.  فقد لعب البربر دوراً كبيراً في فتح الأندلس وصقلية وجنوب إيطاليا.  وفيما بعد لعبوا دوراً مهماً في نشر الإسلام في إفريقيا .

وفي فارس بدأ التحول إلى الإسلام بعد معركة القادسية.  وقد أقبلت الشعوب الفارسية على الإسلام، وعلى اللغة العربية بصورةٍ جعلت فارس تنجب أشخاصاً ساهموا مساهمات جليلة في خدمة اللغة العربية والدين الإسلامي، من أمثال سيبويه والبخاري.  وخلال القرنين الهجريين الأول والثاني كان تعريب فارس يمضي بنجاح كبير.  وقد تراجعت هذه العملية بعد نجاح حركة العباسيين، التي سبقتها حروب بين القبائل العربية التي كانت قد إستقرت في إيران منذ الفتح، والتي كانت أعدادها كبيرة.  وقد تم الإجهاز على العربية والمتكلمين بها من قبل المغول الذين إستهدفوا العرب بشكلٍ خاص في البلدان الإسلامية التي إستولوا عليها .

في إسبانيا تقبل سكانها الإسلام، في السنين الأولى للفتح .   وقد تركت المعاملة الحسنة التي تعاملوا بها مع السكان المحليين ، البعيدة عن الكبر والمتسمة بالإنصاف والبعد عن إرتكاب المذابح والفظائع والنهب والسلب والقتل.  بل تتجاوز ذلك إلى رفع مظالم العهد السابق.  فترك ذلك أثراً قوياً على قرارهم في التحول إلى الديانة الجديدة.  وحيثما تصرفت الجيوش الإسلامية بصورةٍ مغايرةٍ لذلك فشلت في خلق إنطباع إيجابي على سكان المناطق المفتوحة ، بحيث خلق لديهم رغبة في التحول إلى الإسلام وتبني اللغة العربية .  مثلما حدث في إيطاليا وفرانكيا ( فرنسا )، حيث كان همهم الحصول على الغنائم.  تقبل الإسبان الإسلام في السنين الأولى بعد الفتح، ولكن إرتد الكثيرون منهم عندما إشتعلت الحرب الأهلية الأولى بين المسلمين.  ومع هذا فقد كان نسبة عالية من مسلمي الأندلس في القرون التالية من أصل إسباني وأصل قوطي .  وقد نبغ من هؤلاء كثيرون بينهم إبن حزم الفيلسوف المشهور الذي كان من أصول قوطية.

وفي صقلية تحول الكثيرون إلى الإسلام.  ولكن بمجرد أن تم الإستيلاء النورماندي على صقلية تراجعت أعداد المسلمين في الجزيرة، ولم يعد من المحتمل تحول أحد إلى الإسلام.  وذلك على الرغم من موقف النورمان المتسامح.  لقد كان الملوك النورمان معجبين بالثقافة العربية، وكان زوارهم الأوربيون يشجبون الحياة في قصورهم التي كانت تشبه قصور الحكام المسلمين، ولكن النورمان لم يسلموا مثلما فعل المغول بعد إنتصارهم على المسلمين. 

وفي سوريا تم إحتكاك الإوربيين بالعرب، ولم تسجل حالة تحول إلى الإسلام، الذي كان أتباعه يقطنون القرى والمدن المحتلة.  ولكن بعد إنتهاء الحروب الصليبية، لم يغادر الصليبيون جميعاً، حيث لم يدفعهم لذلك أحد، فأسلم بعضهم وبقي القسم الآخر على مسيحيته ولكنهم تبنوا اللغة العربية وتعربوا.  ولم يبقى من مظاهر الثقافة الفرنجية سوى الملابس التي كانت لا تزال ترتديها الفتيات في أعياد الفصح والميلاد في مدن فلسطين وسوريا ولبنان وتعود إلى أوربا العصور الوسطى، مما أغنى التنوع الحضاري لهذا الإقليم.

لقد إنخرط ماتبقى من صليبيين في الحياة في المشرق العربي لدرجة أن بعضهم تبدى ، أي تبنى الحياة البدوية بما فيها من تنقل ورعي والعيش في بيوت شعر.                                           

 

تنصر الروس

نشط المبشرون المسيحيون في روسيا منذ مرحلةٍ مبكرة، ولكن في عهد البطريرك فوتيوس ، في النصف الأول من القرن التاسع ، كان هناك إشارات أن روسيا قد تحولت إلى المسيحية .  ولكن ذلك الإعتقاد لم يكن مؤكداً ، فقد قاومت وثنية الروس طويلاً ، وبقي الكثير من أبناء الشعب الروسي على دياناتهم الشمالية القديمة .  ثم جاء تنصر أولغا ، الأميرة الروسية ، التي زارت القسطنطينية وأُستقبلت من قبل الإمبراطور بحفاوةٍ بالغة .  وعندما عادت إلى كييف ، حيث كانت عاصمة روسيا قبل بناء موسكو ، بذلت جهداً كبيراً في تحويل أهل بيتها وأبناء شعبها إلى المسيحية ، ولم يكن ذلك سهلاً ، ولكن خلال العقود القادمة أصبحت المسيحية ديانة غالبية الشعب الروسي .  وبما إن المبشرين غنطلقوا من القسطنطينية ، فإن تنصر الروس جاء على المذهب الأرثودكسي .  وبعد أن تم الإنقسام بين كنيستي القسطنطينية وروما ، بذلت الكنيسة الكاثوليكية جهوداً كبيرة لتحويل تبعية الكنيسة الروسية لروما. 

وقد تأخر بعض أجزاء شمال أوربا إلى القرن الرابع عشر ، مثل لتوانيا وغيرها [5] .

 

إستقرار المجر

يعد الماجيار القادمين ، من آسيا من أمهر الشعوب في ركوب الخيل والقتال عليها وسرعة الإنتقال والمناورة والمهارة في الرمي والشدة في القتال.  وبعد وصولهم أوربا أخذوا يهاجمون المدن والقرى والأديرة، وينهبون ويخربون ويقتلون، حتى أصبحوا عنصراُ هاماً من عناصر زعزعة الإستقرار في أوربا. 

وفي العام 892 م قام أرنولف ملك الفرنجة الشرقيين بالإستعانة بهم بقيادة زعيمهم أرباد في حملته للقتال ضد مورافيا، فهزموها، كما أوقعوا الهزيمة بالسلاف .  فنالوا مقابل ذلك أراضي واسعة سكنوها.  وهي ما تعرف اليوم بالمجر أو هنغاريا، على إسمهم.  وفيها أسسوا مملكة، على قلة عددهم، لها أسرتها الحاكمة ودوقاتها وإقطاعياتها، تماماً على النمط الأوربي.  ولكن هذا لم يساعد على إستقرارهم ، وجعلهم يتركون الغزو والنهب والسلب.  بل أصبحت هذه البلاد قاعدة لغزواتهم .

هاجم المجر شمال إيطاليا سنة 889 م .  وإبتداءاً من سنة 900 م هاجموا بافاريا وكارينثيا وسكسونيا وثورنجيا وسوابيا و والألزاس واللورين و برجنديا ولومبارديا وبروفانس.  فتركوا وراءهم الخراب والإحساس بالهلع وعدم الإستقرار.  ولم يكن يقف أمام المجر سوى الأسوار، ولذلك بادرت القوى المحلية بتعمير أسوار للمدن والقرى وتحصينها، بحيث تقيهم هجمات القطاعات المسلحة المجرية.  إمتدت فترة عربدة المجر إلى خمسة وستين سنة، ولم تتوقف إلا بإنكسارهم عسكرياً، أولاً على يد هنري الأول سنة 933، ثم على يد أوتو الكبير في موقعة حاسمة على نهر ليش.  فأخلد المجريون ، بعدئذٍ إلى الإستقرار والسكينة ، ولم يعودوا إلى الغزو .  وقد كان لذلك الأثر الكبير في إعلاء شأن أوتو ومملكته، وساعد على إنتعاش أحوال أوربا. 

   

تنصر السلاف

لقد مارست قبائل السكسون الغزو ضد السلاف الوثنيين لعقود طويلة.  وكان السكسون يعبرون جبال الألب من أجل السلب والنهب والحصول على الإتاوات.  ثم تحول الأمر في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، فقد بدأ السكسون يستوطنون الأراضي التي يستولون عليها.

وفي العام 1147 بينما كان الإستعداد جارياً في أوربا لحملة صليبية جديدة، حصل أمراء السكسون إعفاءاً من المشاركة في الحملة الصليبية مقابل حروبهم ضد السلاف بدل المسلمين. 

وفي نفس العام شن السكسون حرباً مدمرة ضد السلاف قضت على مقاومتهم للأبد .  فقد قال أمير السلاف نيكولت لهنري دوق سكسونيا ما نصه " لتعبد أنت من تشاء، أما نحن فسوف نعبدك أنت " [6] .  وبهذا تنصر آخر الشعوب السلافية ، وكانت شعوب سلافية أخرى قج تنصرت أبكر من ذلك ، على أيدي مبشرين بيزنطيين .  لهذا السبب نجد اليوم بعض الشعوب السلافية يتبعون الكنيسة الأرثودكسية والبعض يتبع الكنيسة الكاثوليكية.         

 

إنتصار الخلقيدونية

لقد حققت المسيحية الخلقيدونية ( الكاثوليكية الأرثودكسية ) إنتصارات كبيرة في أوربا في القرون التاسع والعاشر والحادي عشر.  وقد ظهر ذلك في ثلاث إتجاهات؛ الأول تحول وثنيي أوربا إلى المسيحية، وقد بدأت الجهود التبشيرية في أوربا منذ عهدٍ بعيد.  وقد حققت نجاحاً في إنجلترة وإيرلندة قبل ألمانيا.  وتنصرت غالة وإيبيريا في مرحلة مبكرة كذلك.  وفي عهد شارلمان تنصر السكسون بعد حروب طويلة.  كما تم خوض حرب صليبية ضد وثنيي سواحل البلطيق لتنصيرهم.  أما إسكندينافيا فقد تم تنصيرها بجهود تبشيرية على يد مبشر ألماني.

أما محور إنتصار الخلقيدونية الثاني فهو تحول الإريوسيين إلى الكاثوليكية والأرثودكسية.  وقد بدأ هذا التحول قبل هذه الفترة ولكنه تتوج وإكتمل فيها.  وهذا مد سلطان البابوية والإمبراطورية على عدد أكبر من السكان ومساحات أكبر من الأرض.

والمحور الثالث لإنتصار مذاهب أوربا هو إيقاف المد الإسلامي في غالة وفي إيطاليا.  وكان التهديد الإسلامي في القرنين التاسع والعاشر خطيراً وجاداً.  وكان هناك فرص كبيرة لتحول بعض وثنيي أوربا إلى الإسلام، مثل شعوب الدنمرك وروسيا، لإحتكاكهم بالمسلمين.  كما أن فر صة تحول مسيحيين في جنوب أوربا ممكناً لو إستقرت الإمارات الإسلامية فيها، ولو تصرفوا على خطى سلفهم.  لقد تحقق تحول الكثيرين في إسبانيا وصقلية إلى الإسلام، ولكن الجهد العام تم إحتواءه.

ويمكن إضافة محور رابع يتعلق بالتنصير القسري لليهود، حيث أدى إلى تحول أعداد كبيرة منهم إلى المسيحية.

 

 

 

 



[1]  تعاقبت عليها الإمبراطورية المقدونية ثم الرومانية ثم البيزنطية .

[2]  أوربا العصور الوسطى، عاشور.

[3]  تاريخ أوربا العصور الوسطى، العريني.

[4] The  Byzantine State , C. Oman.

[5] The Roman Empire, Gibbon, VII.

[6]  حضارة أوربا العصور الوسطى، موريس كين

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

.


 
 

 


تعليقات

لا يوجد تعليقات

الإسم 
البريد الإليكتروني (ليس للنشر)
التعليق
هل توافق على الانضمام لمجموعتنا البريدية؟
  أرسل

 

Counter