كتاب " نحن وأوربا " - الجزء الثالث - الفصل الثاني عشر - نهاية الثقافة الإسلامية في صقلية
 
 



نهاية الثقافة الإسلامية في صقلية

 

لم ينتهي وجود المسلمين الثقافي والسياسي وحتى العسكري في جزيرة صقلية بسقوطها بيد النورمان .  فقد إستمر هذا إلى ما بعد إنتهاء حكم النورمان على الجزيرة ، ويعود ذلك إلى أربعة أسباب ؛ الأول تسامح حكام النورمان ، وهي حالة أوربية نادرة. والثاني أن جزءاً من مسلمي صقلية حارب مع النورمان ، كما أسلفنا [1] ، والثالث كون المسلمين شكلوا غالبية السكان في معظم أقاليم الجزيرة والرابع أن سكان المدن فتحوا مدنهم بناء على إتفاقيات ضمنت حقوقهم [2] .  وقد بقي معظم مسلمي صقلية فيها يمارسون عباداتهم بحرية كاملة ، بل يعج فيهم البلاط ، في عهود الحكام المختلفين ، من نورمان وألمان من أسرة هوهنشتاوفن ، كما كانوا يخدمون في الجيش .  وقد عمد حكام صقلية الجدد إلى توطين أعداد كبيرة من الأوربيين ، كان اللومبارديون الأشد على المسلمين من بينهم .  فلم يستطع الكثير من المسلمين التعايش مع الوضع الجديد فهاجر الكثيرون إلى تونس والأندلس [3] . وقد كان بعض ملوك صقلية يتقنون اللغة العربية ، وبينهم فريدريك الثاني ، الذي كان يتقن ثمانية لغات أخرى.  كما كان لباسهم ومأكلهم وغنائهم عربياً ، وكان ذلك يثير فزع زوارهم من الأوربيين.  ولم يقتصر هذا الموقف على الملوك ، بل أن أحد المؤرخين المسيحيين كتب يقول أن المسيحيين والمسلمين في باليرمو متحدون للدفاع عن بلادهم ، وقد كتب هذا عندما تعرضت الجزيرة لخطر أوربي.  ولم يكن هذا الكلام مقبول أوربياً، ولا حتى لمؤرخ مثل جيبون [4] .    لقد شارك النورمان في الحروب الصليبية ، وأسسوا إمارة في شمال سوريا ، بل كانوا يهاجمون سواحل شمال إفريقيا ، وبنفس الوقت كانوا يهتمون بالثقافة الإسلامية .  ويبدو هذا مستغرباً على فرسان النورمان ، الذين جاؤوا إلى جنوب إيطاليا من نورماندي ، على شكل مجموعات صغيرة تمارس السلب والنهب، بل والسرقة .  وبالإضافة إلى موقفهم الإيجابي من المسلمين والثقافة الإسلامية ، فقد وقع ضمن ممتلكاتهم في جنوب إيطاليا مركزين هامين ؛ وهما مدينتي ساليرنو، التي كانت مركزاً للعلوم وخاصةً العلوم الطبية، والثاني مدينة أمالفي ، التي كانت مركزاً تجارياً بحرياً هاماً .  وقد إستمر نشاط أطباء ساليرنو وسمعتهم تعم أوربا ، فيقصدها المرضى للعلاج ، أو يطلب أطباؤها لتقديم خدماتهم في قصور أوربا وحصونها.  كما إستمرت أمالفي مركزاً تجارياً ينافس جنوة والبندقية. 

ولم يكن الوضع مثالياً تماماً ، ففي العامين 1160 و1161 تعرض المسلمون للإضطهاد في باليرمو عقب هزيمة النورمان في شمال إفريقيا على يد الموحدين .

إنتهى حكم النورمان لصقلية وجنوب إيطاليا بعد أن هاجم هنري السادس ، إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة ، مملكة النورمان ، بسبب تجاوز نبلاء النورمان لزوجته كونستانس ، الوريثة الشرعية لعرش صقلية ، وتنصيب تنكرد ملكاً عليهم، وهو حفيد غير شرعي للملك النورماني الأول، ولكن قدراته العسكرية والسياسية مكنته من كسب العرش .  ولكن  تنكرد توفي قبل بدء الغزو الإمبراطوري وحل محله وليم الثالث .    

وقد رتب هنري السادس أوضاعه الداخلية قبل الزحف على جنوب إيطاليا ، فقد حيد دوق سكسونيا خصمه اللدود في ألمانيا ، وتحالف مع البابا وجنوة وبيزا ، الذين قدموا إسناداً بحرياً للجيش الإمبراطوري وسيطروا على مضيق مسينا وفتحوا ميناء باليرمو سنة 1194 م .  وفي باليرمو سقط التسامح ووقع قتال بين المسلمين والمسيحيين سنة 1189م في زمن تنكرد ، الذي لم يكن متسامحاً مع المسلمين [5] ، حيث تم ذبح عدة آلاف منهم ، فإنسحب البقية إلى جبال الجزيرة في الداخل، و          " أصبحوا مصدر إزعاج للجزيرة لأكثر من ثلاثين سنة " [6] . 

إستولى الإمبراطور الألماني على الجزيرة ، وإستولى على ثرواتها ، ونفى الملك الشاب والعائلة الملكية النورمانية إلى قلعة في الألب [7] .  وبعد هذا التاريخ بعشر سنوات قامت فرنسا بضم مقاطعة نورماندي ، وإنتهى بذلك النورمان بعد أن صنعوا أمجاداً في إنجلترة وفرنسا وإيطاليا وصقلية وسوريا والأناضول .  لقد إنتهوا كهوية سياسية ، كما إنتهوا كشعب صاحب هوية وطنية منفصلة، فقد ذابوا في الأنجلو سكسون وفي الفرنسيين والإيطاليين .  

غادر هنري صقلية تاركاً زوجته في صقلية ومعها إبنها الرضيع فريدريك ، الذي كبر وأصبح فريدريك الثاني ، الذي نشأ في بلاط باليرمو وتعلم اللغة العربية وتأثر بثقافتها .  وعندما إعتلى فريدريك الثاني العرش الإمبراطوري كان محباً للثقافة العربية وللثقافة عموماً ، وكان بلاطه المكان الوحيد في العالم الذي تعايشت وتفاعلت فيه الحضارات العربية والإغريقية واللاتينية جنباً إلى جنب.  كان محباً للعلوم وكان يراسل السلطان الكامل متضمناً رسائله مسائل رياضية وفيزيائية ، ويعتبر بلاطه أحد جسور إنتقال المعارف العربية إلى أوربا [8] .

  وطوال عهد فريدريك كان المسلمون في حالة عصيان في جبال الجزيرة الداخلية.  ولكنه غادر الجزيرة سنة 1212 إلى ألمانيا وعاد سنة 1220بعد أن توج إمبراطوراً ، ولدى عودته بادر إلى إخضاع ثورة المسلمين في الجزيرة ، حيث قدر عدد الثوار بما يتراوح بين خمسة وعشرين وثلاثين ألف مقاتل ، وكان قد وعد البابا بقيادة حملة صليبية ، ولكن البابا تفهم تأجيلها بسبب إنشغال فريدريك بالإستيلاء على وسط الجزيرة الواقع تحت سيطرة المسلمين .  وعقد صلح بين الطرفين ، وكان قائد المسلمين إسمه محمد بن عباد العبسي ، فوقع الإتفاق على أن يسمح له بالإنتقال إلى إفريقيا مع جميع ما يملك من منقولات ، وأبت إبنته الدخول بالإتفاق ، فغدر به وقتلوه ، فإستمرت إبنته بالمقاومة لسنتين أخريين إلى أن قتلت نفسها بالسم [9] .  وبعد أن إستتب الأمر له قام فريدريك بنقل ستين ألف من مسلمي صقلية إلى إيطاليا ، حيث رتب إقامتهم في لوسيرا في أبوليا ، وإستعان بهم في حروبه في إيطاليا ، وخاصةً ضد البابوية ، الأمر الذي زاد من كره المسلمين في أوربا ، التي كانت في حالة حرب معهم في الشرق وفي الأندلس.  وتعتبر خطوة فريدريك هذه ، طرد العرب إلى الداخل، دلالة على ما كان عليه من دهاء ، فقد سارع بكسبهم وأخاف بهم إيطاليا.  وبعد هذا التاريخ فرغت صقلية من العرب ، ولم يبقى منهم إلا القليل .  وكان يتبع سياسة التهجير مع المعارضين له .  وقد أقام في إيطاليا عدد آخر من التجمعات العربية الأصغر حجماً مثل فوجيا وجيروفالكو.  ومما يثبت أن هذه التجمعات لم تعن حلاً للتخلص من العرب وخطرهم ، بل خطة لها أهدافها ، فقد أحضر عرباً آخرين من جزيرة جربة بعد إحدى غاراته عليها [10] . وقامت حركة أخرى من قبل ما تبقى من المسلمين في صقلية سنة 1243 فعوقبوا بالتهجير كذلك إلى لوسيرا .  وفي العام 1245 أرسل من تبقى من المسلمين إلى لوسيرا بأمر من الإمبراطور [11] .  وكان الملك الكامل الأيوبي قد كتب إلى فريدريك يطالبه بترك المسلمين وشأنهم ، أو يسمح بنقلهم إلى مصر ، فلم يستجب له .

وقد تطرقنا إلى حروب فريدريك وخلافاته مع البابا ، فبدأ بتجنيد المسلمين في جيشه ، فأسس منهم فرقة قوامها ثلاثين ألف مقاتل ، وجعل منهم حرسه الخاص [12] ، كما تحولت لوسيرا إلى مركز للصناعات الحربية ، فإزدهرت فيها الصناعات المعدنية والصناعات النسيجية .  وأظهر سكان لوسيرا ولاءاً ثابتاً للإمبراطور .  فعندما أصدر البابا قرار الحرمان بحق فريدريك كان يجد بجنوده المسلمين ملاذاً مضموناً .  فقد حولهم إلى جنود مرتزقة يوجههم حيث أراد.

ذكر الحميري لوسيرا ، فقال أنها مدينة نقل إليها المسلمين من قبل طاغية صقلية " تحوطاً عليهم لحاجته إليهم وتخوفاً منهم " [13] . كما ذكرهم أبو الفدا ، نقلاً عن موفد بيبرس إلى مانفرد أنها مدينة تقام فيها الجمعة [14] .  وتكلم عنه أبو الفدا بكلمات جميلة ، ووصفه بأنه أحد ملوك الفرنج الكرماء ، يهتم كثيراً بالفلسفة والمنطق والطب ويحب المسلمين [15] ..

 توفي فريدريك في العام 1250 م .  وحكم بعده إبنه كونراد لمدة أربع سنين ، ثم خلفه إبنه كونرادين سنة 1258م، الذي لم يتوج كإمبراطور للإمبراطورية المقدسة ولا حتى كملك لألمانيا ، ولكنه تتوج كملك لصقلية ودوق سوابيا.  لقد ورث كونرادين كراهية البابوية عن جده ، فقام البابا أليكسندر الرابع بمنع إنتخاب كونرادين " ملك الرومان " وهو المنصب الذي يهيئ صاحبه للإمبراطورية بتتويج من البابا ، كما قام بعرض ممتلكات عائلة الهوهنشتاوفن في ألمانيا على الملك ألفونسو ، ملك قشتالة. 

وقد عاش كونرادين في كنف عمه لويس في سوابيا.  وقد بلغه أن عرش صقلية تم إغتصابه من قبل عمه مانفرد ، الإبن غير الشرعي لفريدريك الثاني ، الذي فعل ذلك بناء على إشاعة أن كونرادين قد توفي .  فإستدعاه أهل المدن الإيطالية ، إلا أنه لم يستجب للدعوة بناءاً على نصيحة عمه لويس . 

ولكنه عبر الألب عندما قام شارل الأنجوي ، بناءاً على تشجيع من البابا كليمنت الرابع، بمهاجمة إيطاليا وقتل مانفرد بالقرب من بنيفنتو، في جنوب شرق إيطاليا. 

 

أنجو

وهي إقليم يقع في حوض نهر اللوار الأسفل في غرب فرنسا، كان كونتية ثم دوقية ثم مقاطعة.  وهي من المناطق المأهولة منذ القدم ، كما أن تاريخها السياسي قديم .  وقد شهدت ، كغيرها من الكونتيات والدوقيات ، حروب محلية عديدة ، وعمليات إغتصاب للسلطة وعمليات ضم وتوسع وتحالفات .  كما عانت من حرب المائة عام ، التي وقعت معظم معاركها في غرب فرنسا .  وفي منتصف القرن العاشر إغتصب فولك الأحمر لقب الكونت وحكم نسله الكونتية لثلاثة قرون .  وفي منتصف القرن الثالث عشر، في عهد لويس التاسع، أصبحت ملك التاج الفرنسي ، فقام بتقديمها لأخيه شارلس ، كونت بروفانس ، الذي أصبح من أكثر شخصيات عصره ذكراً ، كما تبوأ مناصب وحاز ألقاب عديدة ، منها ، كما سنرى ، ملك صقلية وملك نابولي وملك ألبانيا وملك القدس وأمير أخيا وكونت بروفانس وكونت أنجو ومين .  وقد شارك في الحملة الصليبية السابعة على دمياط في مصر . 

عاد شارل من مصر سنة 1250م ليجد ثورة في بروفانس ، ناجمة عن الضرائب المرتفعة التي فرضها ،  فجابهها وأخضع مدن بروفانس المعروفة مثل أفينون ، التي أصبحت لآحقاً مقراً مؤقتاً للبابوية ، ووآرلس ومارسيليا، التي إنتهى منها في العام 1252.  بعد ذلك ، وبعد وفاة أمه بلانش القشتالية ، توجه إلى باريس ليشارك أخاه ألفونس في الوصاية على العرش ، أثناء غياب الملك لويس التاسع في الأسر المصري .  وهناك قابل مبعوث بابوي جاء من طرف البابا إنوسنت الرابع بمقترح نزع ملكية صقلية من الإمبراطورية الرومانية المقدسة ومنحها لشارل .  وقد تردد ألفونس في قبول المقترح ورفضه لويس قطعياً ، فإنشغل شارل في نزاعات مختلفة ، كما إنشغل في توسيع أملاكه على حساب جيرانه. 

وفي العام 1258 إستقل مانفرد هوهنشتاوفن بصقلية ، فتعقدت الأمور أكثر بين البابوية عائلة الهوهنشتاوفن ، حيث حل مانفرد مكان كونرادين صغير السن القابع في شمال الالب، وكان مانفرد قائداً عسكرياً مقتدراً وسياسياً طموحاً ، وهذا ما لم يكن يريده البابا في إيطاليا ، وكان البابا أوربان الرابع قد خلف إنوسنت الرابع ، فحاول التوصل إلى إتفاق مع مانفرد دون توفيق ، فقام البابا بإصدار قرار حرمان بحقه.  فهاجم مانفرد الدولة البابوية وتوفي البابا أثناء فراره من الجيش المهاجم ، فحل محله كليمنت الرابع ، فجدد خطة إستئصال الهوهنشتاوفن من صقلية وعرض تاجها ثانيةً على شارل.  وهذه المرة وافق لويس التاسع ، فقام شارل بتوقيع إتفاق مع البابا الذي إشترط شروطاً تُظهر دوافعه وراء هذا التحرك ؛ فقد إشترط البابا أن لا تنضم مملكة صقلية إلى  الإمبراطورية ، وأن لا يتولى ملكها منصباً إمبراطورياً أو بابوياً.  فقد كان البابا حريصاً أن لا تقع دولته بين فكي كماشة من الشمال والجنوب .

ووصل شارل على رأس جيشه إلى روما حيث تُوج على الفور ملكاً على صقلية، كما تم إنتخابه سيناتوراً رومانياً ، فقد كان يحظى بشعبيةٍ كبيرةٍ في روما.  ولم يستأنف شارل عملياته لنقص التمويل، وكان قد لجأ إلى البنوك لهذه الغاية ، ولكن خصمه مانفرد تلكأ أيضاً، فقد خرج في رحلة صيد في أبوليا .  ولكن المواجهة وقعت أخيراً بالقرب من بينفنتو، كما أسلفنا ، حيث قُتل مانفرد وهُزم جيشه .  فإنهارت مقاومة المملكة وفتحت أبوابها لشارل .  وقد قاتل مع مانفرد مسلمي لوسيرا ، الذين جلاهم فريدريك الثاني عن صقلية ، ويبدو أنهم شكلوا معظم جيش مانفرد ، فقد خاطب شارل " سلطان لوسيرا " قبل المعركة ، قائلاً " إما ترسلني إلى الجنة أو أرسلك إلى جهنم " [16] .       

في صقلية باشر شارل بتوطين أعداد كبيرة من الفرسان الفرنسيين كما قام بفرض ضرائب عالية كعادته لحاجته للأموال، فترك ذلك إستياءاً شديداً .  ولكن شارل إنشغل في عمليات عسكرية في شمال إيطاليا ، الأمر الذي أثار إستياء البابا ، الذي لم يكن يرغب بوجود القوة نفسها شمالاً وجنوباً ، إلا أنه سرعان ما بارك هذا التحرك لدى سماعه بعبور كونرادين الألب سنة 1267م  متجهاً إلى إيطاليا.  سالكاً الطريق نفسه الذي عبرته جيوش الإمبراطورية عشرات المرات. وقد قام بتحريض سكان صقلية على الثورة بواسطة مؤيديه فيها.  وإستطاع دخول روما سنة 1268م . ومنها إتجه إلى لوسيرا ليتنضم إلى حاميتها الإسلامية الموجودة فيها منذ أيام جده فريدريك الثاني .  وفي آب من ذلك العام تقابل الجيشان ، جيش كونرادين المكون من جنود ألمان وإيطاليين وإسبان وعرب وجيش شارل  في منطقة جبلية إلى الشرق من روما ، حيث كان النصر لشارل ، فهرب كونرادين إلى روما ، ثم إتجه إلى جنوة حيث تم إعتقاله ، وفيما بعد حوكم وقطع رأسه .  أما شارل فقد تقدم جنوباً حيث إستطاع الإستيلاء على لوسيرا ، ثم تقدم وقضى على ثورة صقلية . 

 

لوسيرا الإسلامية 

وتقع في منطقة داخلية في شمال الجنوب الإيطالي ، وقد سكنتها جالية إسلامية منذ القرن التاسع ، وقد كانت تسمى لغاية القرن الثالث عشر لوسيرا الإسلامية Lacaera Saracenorum  ، فقد شكلت المعقل الإسلامي الأخير في إيطاليا.  وعلى الرغم من قيام فريدريك من ترحيل المسلمين من إيطاليا ، إلا أنه ترك لوسيرا على حالها ، بل نقل إليها ستين ألف مسلم [17] ، وكانت بمثابة قاعدة عسكرية لجيش إسلامي، كما ذكرنا آنفاً، إستخدمه فريدريك ضد البابوية في حروبه معها.       

  وفي  آب 1300، في عهد شارل الثاني الأنجوي، تم تدمير التواجد الإسلامي في هذه المنطقة ، حيث قُتل البعض وأُسر البعض الآخر ، حيث تم بيعهم كعبيد .  وتم تعميد بقايا المسلمين بالقوة بشكل جماعي ، فإنتهى بذلك الوجود الإسلامي في إيطاليا وصقلية [18] .  وهُدم مسجد المدينة وبني مكانه كاتدرائية سانتا ماريا ديلا فيتوريا .  ويذكر أن خزينة الدولة كانت في لوسيرا أيضاً ، وقد كانت آخر المدن سقوطاً في يد شارل الأنجوي .  لقد كانت غرناطة الصقليتين.

يعتقد البعض أن قسماً من سكان لوسيرا قطعوا بحر الأدرياتيك وإستقروا في جبال ألبانيا، التي وقعت تحت حكم قوة إسلامية صاعدة خلال أقل من قرن، وهي الدولة العثمانية.

 

طموحات شارل أنجو في الإمبراطورية البيزنطية

لم تكن صقلية تلبي طموحات شارل ، فقد كان يصبو إلى غزو شمال إفريقيا وفلسطين وبيزنطة.  فقد كان لديه طموحات إمبراطورية ، ولكن سوء إدارة الفرنسيين لجزيرة صقلية حالت دون ذلك .

 

الصلوات الصقلية Sicilian Vespers

وقعت صقلية تحت الحكم الفرنسي في العام 1266، حيث أُعلن شارل ملكاً على الجزيرة ، بمساندة باباوية .  وكان شارل ، وهو أخو لويس التاسع ، طموحاً لدرجة إعتبر صقلية منطلقاً إلى أمبراطورية متوسطية يقيمها على أنقاض دول إسلامية والإمبراطورية البيزنطية ، فلاقى ذلك عداءاً من الإمبراطور البيزنطي ، ميخائيل الثامن ، الذي إستعاد القسطنطينية قبل ذلك بخمس سنوات ، كما كان أبناء أسرة الهوهنشتاوفن ، بطبيعة الحال معادين لشارل ، كما تم جر مملكة أرغون ، التي كانت تنظر إلى ما وراء سواحلها للتوسع في حوض المتوسط ، وقد كان ملك أرغون في ذلك الوقت بيدرو الثالث ، إبن بنت مانفرد ، آخر حكام صقلية من الهوهنشتاوفن.  وقد أدى إنشغال شارل إلى ترك إدارة صقلية بأيدي موظفين فرنسيين أساؤوا إلى شعب الجزيرة .  وقد كانت تجاوزاتهم فظيعة ، فتفاعل تحريض الأطراف الثلاثة ، الذين لهم مؤيديهم ولديهم أدواتهم ، مع النقمة المبررة التي كان يشعر بها سكان صقلية .  وفي العام 1282 جاءت الشرارة التي أوقدت نار الثورة .

ففي أثناء أداء صلاة العصر Vespers في عيد الفصح في إحدى الكنائس باليرمو، دخل بعض الجنود الفرنسيين إلى الكنيسة ، حيث قام أحدهم بجر إحدى النساء ومضايقتها بحضور زوجها الذي قام بطعن الجندي الفرنسي وقتله [19] .  وبدأ الصقليون بمهاجمة الفرنسيين أولاً بالحجارة ثم بالسلاح     

حتى قضوا على جميع الفرنسيين في المدينة ، ما عدا قلة من الذين عُرفوا بالسلوك الحسن .  ثم إنتقل الخبر إلى المدن الأخرى ، فبدأ أهلها بمهاجمة الفرنسيين وقتلهم .  حيث تم قتل الغالبية العظمى منهم مع صيحات الموت للفرنسيين.  وخرجت بذلك صقلية من الحكم الفرنسي ، أما الجنوب الإيطالي فقد بقي تحت حكمهم .  وكانت آخر المدن سقوطاً هي مسينا ، التي إستطاع الجيش الفرنسي المحافظة على  الهدوء فيها ولكن أخطاء قام بها رجال الدين الفرنسيين أشعلت الثورة في مسينا أيضاً .

وقد فوجئ بيدرو ملك أرغون من سرعة الحركة ، حيث كان ينوي مهاجمة صقلية عندما يكون شارل في طريقه إلى القسطنطينية .  ولكنه كان جاهزاً بحجة القيام بحملة صليبية على تونس ، وفعلاً أبحر إلى تونس .  وفي هذه الأثناء وجه أهل صقلية نداءاً للبابا ليضع الجزيرة تحت حمايته.  ولكن البابا كان بجانب شارل ، فلم يصغي إلى نداء الصقليين ، بل قام بإصدار قرار الحرمان بحق الثوار.

وقام شارل بعبور المضيق ومحاصرة مسينا، وبدرهم قام الصقليون بالتوجه إلى ملك أرغون بيدرو، الذي كان جاهزاً فنزل بجيشه في تراباني ، وهي مدينة ساحلية في صقلية .  ثم زحف إلى باليرمو، حيث أُعلن ملكاً .  ولدى علمه بالإنزال الأرغوني ، بادر شارل إلى مغادرة الجزيرة ، ولكن حركة الجيش الأرغوني كانت من السرعة بحيث تمكن من إلحاق خسائر بمؤخرة الجيش الفرنسي.

وقد أُطلق هذا الإسم على هذه الحركة في القرن الخامس عشر ، وأصبح فيما يبدو إطلاق أجراس عيد الفصح نوع من الدعوة لحمل السلاح [20] .    

من الواضح أن هذه الحركة لم يكن للمسلمين دور مباشر فيها، ولكن كان لا يزال جالية إسلامية كبيرة في لوسيرا في شمال أبوليا.  وكان للحرب التي نجمت عن طرد الفرنسيين من صقلية تأثير على موقف شارل الثاني بن شارل أنجو والبابوية من وجود جالية إسلامية محاربة في قلب إيطاليا ، الأمر الذي نجم عنه حملة في العام ، تم فيها تصفية الوجود الإسلامي خلال يومين من شهر آب عام 1300، بالقتل والأسر والتنصير القسري .



[1]  نحن وأوربا ج 2.

[2]  دراسات في تاريخ صقلية الإسلامية ، د امين توفيق الطيبي.

[3]  دراسات في تاريخ صقلية الإسلامية ، د امين توفيق الطيبي.

[4] Roman Empire, Gibbon, VII.

[5]  دراسات في تاريخ صقلية الإسلامية ، د امين توفيق الطيبي .

[6] Roman Empire, Gibbon, VII.

[7] Roman Empire, Gibbon, VII.

[8]  دراسات في تاريخ صقلية الإسلامية ، د أمين توفيق الطيبي .

[9]  دراسات في تاريخ صقلية الإسلامية ، د. أمين توفيق الطيبي .

[10]  دراسات في تاريخ صقلية الإسلامية ، د. امين توفيق الطيبي .

[11]  دراسات في تاريخ صقلية الإسلامية ، د. أمين توفيق الطيبي .

[12]  شمس العرب يسطع على الغرب ، سيغريد هونيكة.

[13]  الروض المعطار ، الحميري .

[14]  دراسات في تاريخ صقلية الإسلامية ، د أمين توفيق الطيبي .

[15]  شمس العرب تسطع على الغرب ، سيغريد هونيكة .

[16] Roman Empire, Gibbon, VII.

[17] Roman Empire, Gibbon, VII.

[18]  دراسات في تاريخ صقلية الإسلامية .

[19] Roman Empire, Gibbon, VII.

[20]  الموسوعة الكاثوليكية .


 
 

 


تعليقات

لا يوجد تعليقات

الإسم 
البريد الإليكتروني (ليس للنشر)
التعليق
هل توافق على الانضمام لمجموعتنا البريدية؟
  أرسل

 

Counter