كتاب " نحن وأوربا " - الجزء الثالث - الفصل الثالث عشر - الطريق إلى القسطنطينية
 
 



الفصل الثالث عشر

 

الطريق إلى القسطنطينية

 

ظهر الإسلام في جزيرة العرب التي تجاورها أربع دول، تفصلها عن إثنتين بحار، وهما الهند والحبشة، وتفصلها عن الأخريين صحاري، وهما فارس والروم.  وقد خاض الجيل الأول من المسلمين حروباً ضد  الفرس والروم، ولم يستهدف الحبشة والهند.  لم يكترث المؤرخون والساسة المسلمون بإبداء مسوغات لنشاطهم العسكري، ولكن كلا الدولتين المذكورتين كانتا تعدان الجزيرة العربية، أو أجزاء منها منطقة نفوذ، ولم يكونا ليسمحا بقيام كيان سياسي يوحد العرب. وبالتالي لم يكن كيان كهذا أن يقوم دون الصدام مع هاتين الدولتين. وعندما غزا الرسول تبوك، أُعتبر ذلك إعتداءاً على العالم المسيحي.   

لقد تنبأ الرسول بتمزق ملك كسرى.  كما تنبأ بدوام ملك هرقل.  ولكنه تنبأ أيضاً بفتح القسطنطينية. 

ومدح جيشها الفاتح وقائد الجيش.  فتحول هذا إلى طموح شخصي وملي، طموح الحكام وطموح الملل بأكملها.  خاصة وأن القسطنطينية إستمرت بعدائها، مستغلة مراحل الضعف والإنشغال الداخلي للمسلمين، فكانت تنقض بجيوشها على حدود الدولة الإسلامية. 

وقد جرت محاولات كثيرة لفتح القسطنطينية، إلى أن ظهرت الدولة العثمانية وإعتلى سدة الحكم فيها محمد، الذي أصبح يعرف بالفاتح، ولكن لنعد إلى البداية..

 

تتريك الأناضول

ينتمي العنصر التركي إلى قبائل التي كانت تجوب جبال الألتاي في شمال منغوليا وفي سهوب أواسط آسيا قبل ألفي عام.  وهم لا يختلفون عن المغول عموماً في الشكل ، ولكنهم إكتسبوا السحنة المتوسطية ودخلوا في الإسلام مع تقدمهم غرباً وإمتزاجهم مع شعوب أخرى.  وقد كانوا، هم والمغول يدينون بديانات شامانية، ولكن المغول تحولوا إلى البوذية على أيدي مبشرين من التبت، كما إنتشرت بينهم الديانة المسيحية على المذهب النسطوري.

وفي القرن السادس الميلادي نظم الترك أنفسهم بتحالف قبلي كبير فأسسوا دولتهم الأولى التي سموها " تُرك السماء " Gokturks .  وفي القرن السابع تفككت هذه الدولة ، فتأثرت القبائل الشرقية بالحضارة الصينية ، فظهر العرق المغولي.  بينما تأثرت القبائل الغربية، التي أخذت بالإنتقال إلى الغرب ،  بالحضارة الإسلامية. 

وقد ظهرت تجمعات قبلية كبيرة منها الأوغور، الذين بقوا في شمال منغوليا.  والكيرغيز ، الذين تجولوا في السهوب الواقعة في الشمال الغربي، والغز Oguz الذين سكنوا المناطق الواقعة بين منغوليا وبلاد ما وراء النهر.  ومن أتراك الغز السلاجقة، الذين دخلوا خراسان قبل أن يكتسبوا هذا الإسم ، على شكل قبائل تسعى وراء إيجاد مراعي افضل، ولكن سرعان ما تم تنظيمهم وتوحيدهم من قبل أحد مشايخهم وهو سلجوق، الذي تمكن من بناء إمبراطورية كبيرة حملت إسمه، حيث هزموا جيش الدولة الغزنوية في معركة دنداناكان.  وقد إمتدت حتى وصلت إلى الأناضول ، حيث سجلوا إنتصاراً حاسماً على الإمبراطورية البيزنطية سهلت توسع السلاجقة غرباً ، ودخول الإسلام إلى الأناضول.  وقد إنشقت سلطنة أخرى عن السلاجقة وكان مقرها في الأناضول ، وهم سلاجقة الروم .

وفي القرن التاسع قام الكيرغيز بطرد الأوغور إلى الجنوب نحو الصين وإلى الغرب بإتجاه بلاد ما وراء النهر.  ثم إنتقل الكيرغيز ليستقروا في المكان الذي لا يزالوا فيه إلى الآن، في جمهوريات وسط آسيا مثل كيرغيزستان.

وفي بداية القرن الثالث عشر نظم المغول أنفسهم وتوحدوا تحت قيادة جنكيز خان الذي إجتاح العالم الإسلامي متسبباً في دفع الشعوب التركية إلى الغرب، وغالباً نحو الأناضول.  فجاءت هجرات تركية عديدة إلى الأناضول ، ولكنهم كانوا جميعاً قد أسلموا قبل وصولهم الأناضول .   وقد أسلم الترك ولم يتبنوا اللغة العربية، وذلك لأنهم أسلموا في مرحلة تراجع الثقل السياسي العربي.  فإقتصر إستخدام اللغة العربية على الفقهاء والقضاة ، بينما كانت لغة الحكومة اللغة الفارسية، وكانت اللغة التركية لغة الشارع والسوق.

ومع ضعف السلاجقة ظهرت إمارات تركية عديدة ، كان يتزعمها بيكوات ومقامة على أساس قبلي وقد إستمر بعضها إلى القرن السادس عشر.  كما قامت سلالات تركية في الجزيرة والشام ، مثل الزنكيين والأراتقة، وظهرت دولة المماليك التي كان سلاطينها من مماليك أتراك جُلبوا من أواسط آسيا.

لقد أدرك المؤرخون العرب أن الأتراك والمغول ابناء عمومة، فكان تعليقهم على هزيمة المغول في معركة عين جالوت التي قاد جيش المسلمين فيها قائد يعود لأصول تركية ، أن هزيمة المغول جاءت على يد أبناء جلدتهم.       

 

سلاجقة الروم

إنفصل جماعة من السلاجقة الأتراك عن بقية السلاجقة بعد معركة ملاذكرد ، وكانوا بقيادة قتلمش بن أرسلان ، وهو من أقرباء سلاطين السلاجقة .  فأخذوا يتوسعون بإتجاه الغرب مستغلين الصدمة الناجمة عن هزيمة ملاذكرد ، والفراغ السكاني الناجم عن أربعة قرون من معارك الإستنزاف بين المسلمين والروم .  فإستولوا على مدينة نيقية عام 1078 م وإتخذوها عاصمة لإمارة تتبع السلاجقة .  حكم قتلمش من سنة 1077 م إلى سنة 1086 م ، ثم تسلم إبنه سليمان الحكم .  وفي عهد خليفته قلج أرسلان بدأت الحروب الصليبية ، التي مرت حملاتها البرية جميعاً من خلال أراضي إمارة سلاجقة الروم ، الذين سموا بهذا الإسم لتمييزهم عن السلاجقة الكبار . 

في أول صدام للصليبيين مع قوة إسلامية ، هزم الصليبيون جيش قلج إرسلان وإستولوا على نيقية .  وفي العام 1116م  تحولت العاصمة إلى قونية . 

وفيما بعد قام قلج أرسلان بإلحاق الهزيمة بكل جيش صليبي مر من أراضيه ، بل فقد بعض قادتهم حياتهم ، بينما وقع البعض الآخر في الأسر .

وقد إستمرت دولة السلاجقة الروم في البقاء رغم الضغط الصليبي والبيزنطي .  وقد بلغت أفضل أيامها في زمن قلج أرسلان الثاني ، الذي وسع الدولة وقضى على دولة الدنشمانيين .  وبعد وفاة قلج أرسلان الثاني تقسمت إلى إثني عشرقسماً ، بين الأبناء .  ولكن غياث الدين خسرو إستطاع توحيدها من جديد .

وقد بدأت دولة سلاجقة الروم بالتراجع والضعف بعد غزوات المغول .  وإستمر البقاء والصراع في الأناضول ، حتى وضعت نفسها تحت حماية الإيلخانات المغول ، الذين قاموا بضم الإمارة سنة 1308 م .

 

إمارة القرمان 

وقد قامت على أنقاض دولة سلاجقة الروم في آسيا الصغرى بعد زوالها في العام 1304م وإتخذت من مدينة قونية عاصمةً لها.  وتوسعت حتى شملت أقاليم واسعة ، وكانت تلي الدولة العثمانية في الحجم والقوة ، التي كانت تجاورها.  وقد كان توسع العثمانيين على حساب جيرانهم ، فكادت أن تنمحي من الخارطة في زمن بايزيد الأول ، حيث قتل سلطانها في المعركة وأسر إبنيه.  ولكن حملة تيمورلنك على الأناضول أعطت الإمارة عمراً جديداً ، فقد أطلق سراح الأسيرين ، وإستمرت الإمارة إلى القرن السادس عشر.

 

إمارة ذي القدر

وهم تركمان من قبيلة الأوجاقية ، وقد أسسوا إمارتهم بعد نزوحهم فراراً من جنكيز خان تحت قيادة زعيمهم ذو القدر.  وقد حكموا ملطية بدايةً ُم توسعت إمارتهم لتشمل مدن مهمة مثل مرعش وعينتاب وأنطاليا وديار بكر والرها وخربوط ودارندة وسيس. 

وقد عانت الإمارة من موقعها المتوسط بين دولتي المماليك والعثمانيين، كما لم تسلم من غزوات المغول من قبل.

 

إمارة رمضان

وهم أسرة تركمانية وصلت إلى آسيا الصغرى في زمن أرطغرل.  وقد إستقرت في منطقة إذنة ، ثم توسعت  لتشمل مدن أخرى ، مثل طرسوس وسيس وإياس. 

إمارة آق قوينلو

وهم قبيلة تركمانية نزحت من خوارزم تحت وقع هجمات المغول وإستقرت في إقليم ديار بكر وإتخذت آمد عاصمة لها.  وإسمها يعني الخروف الأسود، الذي كان يضعون رسماً له على علمهم.

وقد أقطعهم تيمورلنك مناطق واسعة في سيواس وما حولها، والتي كان يحكمها القاضي برهان الدين.

 

إمارة قراقوينلو          

وهي إمارة تركمانية تشكلت في الأناضول من أبناء قبيلة تحمل الإسم نفسه ، وقد إستقر هجرة هذه القبيلة شمال بحيرة قونية.  والكلمة تعنى  الخروف الأسود.

 

العثمانيين

عندما زار الرحالة المشهور إبن بطوطة آسيا الصغرى ، لاحظ وجود عدة إمارات إسلامية من الترك في مناطق مختلفة من الأناضول ، من بينها إمارة عاصمتها بورصا ، وهو أُورخان بن عثمان " وهو أكبر ملوك التركمان وأكثرهم مالاً وبلاداً وعسكراً ، له من الحصون ما يقارب مائة حصن " [1] .  وهو دائم الطواف على حصون مملكته ، يرممها ويهتم بشؤونها ، " ويقاتل  الكفار ويحاصرهم " [2] .  هكذا كانت صورة الوضع في سنة 734 هـ  ( 1300 م )  في الأناضول حيث كانت هناك عدة ممالك تركية ، من بينها مملكة بورصة الواقعة في الطرف الغربي لآسيا الصغرى .  وكان عثمان بن أرطغرل بن سليمان شاه قيا ألب قد فتحها من أيدي الروم ، وهو الذي أسس ما أصبح يعرف بالدولة العثمانية.  والكفار الذين ذكرهم إبن بطوطة لم يكونوا سوى الروم.

وكان عثمان هاجر بقبيلته قايي ، التي يتزعمها، من آسيا الوسطى .  كما هاجرت قبائل تركمانية فراراً من المغول الذين هاجموا بلاد خوارزم ، حيث كانوا يعيشون .  وقد هاجر وبصحبته ألف فارس حتى وصلوا إلى خلاط ، وهي مدينة في جنوب شرق الأناضول .  وهناك إتخذ قراراً بالعودة ، وفعلاً بدأوا بالرجوع . وأثناء عبورهم للفرات سقط سليمان في النهر وتوفي .  فتولى القيادة أحد أبناءه ، الذي إستمر في طريق العودة ، بينما إنفصل عنهم أربعمائة أُسرة تابعوا مسيرهم داخل الأناضول بقيادة أرطغرل .  قام أرطغرل ( 1198 – 1281 ) بإرسال إبنه إلى السلطان علاء الدين السلجوقي ، سلطان قونية من سلاجقة الروم ، يلتمس لديه مسكناً ومراعي ، ولكن الإبن توفي دون أن يتم مهمته .  وفي هذه الأثناء شعر أرطغرل بحركة جيوش في المنطقة التي كان يقيم فيها مع أهله ومواشيهم ، التي سرعان ما إشتبكت في معركة كانت تسير بإتجاه غلبة أحدهما على الآخر لصغر حجمه ، فتدخلوا وساندوا الجيش الأصغر مما رجح كفته وإنتصر.  وبعد أن هدأ السلاح تبين أن الجيش الذي ساعدوه ، جيش سلجوقي ، بينما الجيش الآخر ؛  جيش بيزنطي ، أو جيش مغولي .  فما كان من السلطان السلجوقي إلا أن كافئ أرطغرل بقطعة أرض صغيرة تقع إلى الغرب من مملكة السلاجقة ، في مواجهة الروم .

وقد زكى السلطان السلجوقي علاءالدين عثمان ليرث أبيه بعد موته ، وقد مات علاء الدين دون وريث ، بعد أن تلقى هزائم على أيدي المغول وفراره إلى القسطنطينية عام 699هـ ( 1300 م ) .  وعندما مات أرطغرل ورث عثمان ( 1258 – 1326 )  الحكم ، وكان في الرابعة والعشرين ، كما قام بضم معظم أملاك السلطان علاءالدين ، ثم إتخذ مدينة يكي شهر عاصمةٍ لدولته ، وهي أقرب إلى وسط الأناضول .  وتبنى علماً من الهلال والنجمة الخماسية ، الذي لا يزال مستخدماً في تركيا . 

في هذا الوقت كانت قد مضى على سقوط بغداد 42 سنة ، وكانت الحروب الصليبية قد لفظت أنفاسها للتو ، وكانت القسطنطينية ، رغم شيخوختها ، قادرة على الإستمرار ، ولكنها فقدت معظم ممتلكاتها الآسيوية ، وكانت دولة المماليك تحكم في مصر والشام . 

نشأت دولة آل عثمان مستهدفة من كلا المغول من الشرق ومن البيزنطيين في الغرب .  وقد إنخرطت في حروب طويلة معهما .        

لقد تمكن عثمان من فتح مدينة بورصة سنة 717 هـ ( 1317 م ) ، حيث حاصرها ، وقد حاول المغول التدخل أثناء الحصار ولكنه تمكن من توجيه ضربة لهم وإستمر بحصار بورصة إلى أن فتحها .

توفي عثمان سنة 726 هـ ( 1326م ) ، فتولى الحكم إبنه أورخان ( 1326- 1359 ) الذي نقل العاصمة إلى بورصة في غرب الأناضول وتوسع في هذه المنطقة حتى أصبح معظم غرب الأناضول ضمن دولته .  ثم تمكن من فتح مدن مجاورة للقسطنطينية .  فبدأ الخوف ينتاب أوربا ، فتداعت قوى مختلفة لتشكيل حلف لمواجهة الدولة العثمانية ، فتشكل حلف من البندقية وألبانيا وفرنسا وفرسان رودس ( الصليبيين ) ، بالإضافة إلى الإمبراطورية البيزنطية .  وقد تم الإتفاق على حشد ثلاثمائة ألف جندي لمحاربة العثمانيين .  ولكن حرب المائة عام بدأت بين فرنسا وإنجلترة ،  ففرط الحلف .

وفي العام 736 هـ توفي أحد أمراء الممالك التركمانية الموجودة في الأناضول ، حيث إختلف ولداه على الحكم فقام أورخان بضم مملكتهم . 

وقد عين أورخان أخاه علاءالدين وزيراً له ، الذي ركز على بناء المؤسسات المدنية والعسكرية للدولة ، مثل تنظيم أجهزة الدولة وبناء الطرق والجسور وحشد الجيوش وغير ذلك .  وفي عهد أورخان تم تحقيق الإستقلال التام عن سلطان قونية ، والتوقف عن ذكر إسمه في الخطب ووضع إسمه على العملة .

وقام علاء الدين بإنشاء جيش جديد سُمي الإنكشارية ، ويتألف من أبناء المدن الأوربية المفتوحة ، الذين تم تنشئتهم على الإسلام وتدريبهم منذ الصغر لكي يصبحوا مقاتلين محترفين ، والكلمة تعني الجنود الجدد ( ينجكي شيري ).  وقد كان العثمانيون ، وغيرهم ، يحاربون بقوات من المتطوعين الذين يأتون تحت رايات أمرائهم ، ويعودون إلى قراهم ومدنهم فور إنتهاء القتال ، وكان هذا النهج متبع في كثير من الدول .  ووجود جيش محترف على هذه الصورة كان أهم ما ميز العثمانيين في ساحات المعارك لقرون قادمة .  

ثم تزوج أورخان  ثيودورا ، التي بقيت على دينها [3] ، وهي إبنة رئيس بلاط  بيزنطة كانتا كوزين ( يوحنا السادس ) ، الذي كان قد ساعده في إزاحة يوحنا الخامس  ، وكان قد أرسل ولي عهده سليمان لمساندة كانتا كوزين في الصراع الدائر على العرش ، الذي تمكن من السيطرة على قلعة تزيب على الساحل الأوربي لمضيق الدردنيل .  وقد كانت هذه أولى ممتلكات العثمانيين الأوربية .  وفي هذا الصراع أرسلت كل من جنوة والبندقية أساطيل لمساعدة القسطنطينية ، فلم تسمح لهما الكراهية المتوطنة بينهما من القتال في صفٍ واحد ، فإنتهى بهما المقام على طرفي الجبهة ، حيث قاتل الجنويون مع العثمانيين ، بينما قاتل البنادقة مع بيزنطة. ولم تنفع المصاهرة التي قامت بين أورخان وكانتاكزين من التقريب بين العثمانيين والبيزنطيين، حيث قدم إورخان مصالحه الدينيه على علاقاته الشخصية [4] ، حسب تعليق جيبون الذي يصر دائماً على وصف حروب دول إسلامية مع دول أوربية على أنه عداء للمسيحية ، ويشاركه بذلك مؤرخون آخرون .

توفي أورخان وتولى إبنه مرادالأول ( 1359 - 1389 ) ، وهو من أم بيزنطية ، الأميرة هيلين .  وفي عهده أصبحت الدولة العثمانية ثابتة القدم في شرق أوربا.  وقد عزز وجود الدولة العثمانية في غرب الأناضول بحصوله على قلعة كوتاهية من أمير القرمان مقابل تزويج إبنه بايزيد من إبنة أميرهم.  وقد كانت لقلعة كوتاهية أهمية خاصة في غرب الأناضول .  كما باعه سلطان إمارة الحميد، الواقعة شمال أنطاكيا ، جزءاً من إمارة تكة ، وهي إمارة مركزها أنطاكيا على البحر المتوسط .  وتمكن من الإستيلاء على جزء آخر من هذه الإمارة . 

وهكذا كانت سياسة العثمانيين في آسيا تتمحور في ثلاث إتجاهات :

الأول؛ القضاء على بقايا ممتلكات الإمبراطورية البيزنطية .  والثاني  توحيد الإمارات والممالك التركية بشتى السبل ؛ بالشراء والمصاهرة والضم . والثالث درء الخطر المغولي القادم من الشرق.

أما في أوربا فقد كان سياسة العثمانيين الثابتة تعتمد على التوسع على حساب الممالك الموجودة في جنوب شرق أوربا ، بما في ذلك الدولة البيزنطية.  وقد حقق العثمانيون نجاحات كبيرة بينما كان الأمراء الأتراك الآخرين منهمكين في حروب فيما بينهم .

ثم توجه أورخان إلى بلغاريا فتمكن من إخضاعها ، حيث تمكن من هزيمة تحالف من البلغار والصرب والبولنديين والبلغاريين، على الرغم من تفوقهم العددي في معركة ماريتسا عام 1371 م .  وفي العام 1389 تمكن جيش مراد من هزيمة تحالف بلقاني يتكون من الصرب والألبان والبوسنيين والبلغار في معركة كوسوفو الأولى ، ولكن مراد نفسه قُتل على يدي جريح صربي طعنه بينما كان يتفقد أرض المعركة بعد إنتهائها.  فأخضع العثمانيون الأقاليم الواقعة بين الدانوب والأدرياتيك ، وهزموا الشعوب التي طالما كانت مصدر إزعاج للإمبراطورية البيزنطية ، واحداً بعد الآخر [5] . 

بعد وفاة مراد تولى الحكم إبنه بايزيدالأول ( 1389 - 1402 ) ، الذي كان يقود الجيوش مع أبيه، وإستمر في الزحف على رأس جيشه بسرعة وقوة أكسبته لقب الصاعقة ( يلدرم ) ، وغطت عملياته من الدانوب إلى الفرات .  حيث إستمر في حرب الصرب وحقق عليهم النصر النهائي في عام 791 هـ ( 1389م )  .فقام بتعيين إبن لازار ، ملك الصرب الذي قُتل في المعارك ، ملكاً على بلاده ، مقابل الجزية وشروط أخرى من ضمنها تقديم عدد من الجنود عند الحاجة .  لقد إتبع العثمانيون سياسة تجاه البلدان المفتوحة ، يمنحونهم بموجبها هامش حرية واسع في حكم أنفسهم دون التدخل في شؤونهم ، وخصوصاً الشؤون الدينية .

ثم وجه جيشه إلى مدينة فيلادلفيا ، وهي من أواخر معاقل البيزنطيين في آسيا، ففتحها سنة 793 هـ  ( 1391 م ) .  وبهذا أطبق العثمانيون قبضتهم على معظم آسيا الصغرى .

ثم عاود السلطان بايزيد الأول الهجوم على القسطنطينية وفرض عليها حصاراً.  وإنتصر على أمير الأفلاق وفرض عليه الجزية ، ثم رجع إلى الأناضول حيث أوقع بعلاء الدين هزيمة بعد أن حاول التحرش به، فوقع في أسره وضم بلاده بكاملها .  كما فتح حصون أخرى تعود لبعض أمراء التركمان ، الذين إحتموا عند أمير قسطموني ، وهو آخر أمراء السلاجقة في الأناضول ، فهاجمه وهزمه . 

ثم وردته أخبار تحالف أوربي جديد من فرنسا والمانيا والمجر وبلدان أخرى .  فإلتقى بهم بايزيد بجيشه على نهر الدانوب قرب مدينة نيكوبوليس وهزمهم سنة 795 هـ (  1396 م ).

كان إنتصار نيكوبوليس حاسماً وغير من الوضع السياسي في شرق أوربا جميعها ، وكان الجيش الأوربي يتكون من مائة ألف جندي بقيادة الإمبراطور سيجسموند ، الذي إضطر للهرب بقارب إلى القسطنطينية ، وكان الجيش الزاحف المختال قد إفتخر أثناء زحفه قائلاً أن " لو وقعت السماء لتلقيناها بحرابنا " [6] .

ثم تم فتح جاليبولي ، وهي شبه جزيرة على الدردنيل .  وقد تم فتحها بدون قتال على أثر زلزال شديد أصابها .   فتمكن العثمانيون من بسط نفوذهم على كامل تراقيا ، وأصبحت القسطنطينية معزولة عن الصرب والبلغار، وإستمر حصارها إلى عام 1401 م  ، حيث إستمر عشر سنوات ، تمكن العثمانيون خلالها من هزيمة تحالفين أوربيين.  مما جعل الإمبراطور البيزنطي يهرب من المدينة،  التي لم ينقذها إلا التهديد المنغولي.

وفي زمن بايزيد ، إتخذ الحكام العثمانيون لقب سلطان ، وكانوا يسمون أمراء حتى ذلك الزمن .

ويقال إن بايزيد صرح في نشوة النصر بعد نيكوبوليس أنه سيحتل ألمانيا وإيطاليا، ولم يمنع ذلك تحالف أوربي جديد، وإنما الزحف المغولي القادم من الشرق.

 

دولة المغول في سمرقند

بعد وفاة جنكيز خان سنة 1227م قُسمت إمبراطوريته المشكلة حديثاً إلى قسمين بين ولديه أوجوديه وجغطاي .  وبينما أصبح جغطاي حاكماً على وسط آسيا، أصبح أوجوديه خاناً أعظم يحكم الإمبراطورية جميعها ويتبع له القسم الذي يحكمه أخوه فيما وراء النهر . 

وكان هذا الإقليم يسكنه قبائل منالتركمان الرحل، الذين كانوا قد دخل معظمهم الإسلام.  وكان ضمن هذا الإقليم مدينتين كبيرتين، وهما بخارى وسمرقند، وقد كانتا مركزين تجاريين هامين، حيث كانت محطتين للقوافل من الصعب الإستغناء عنهما.  وقد تم إتخاذ سمرقند عاصمة للدولة الجديدة.  وبعد وصول الإسلام إلى هذا الإقليم أصبحتا مركزين لنشر الدعوة الإسلامية بين القبائل التركمانية الدائمة الترحال، والتي تحتاج ، من وقت لآخر، أن يزوروا المدينة لبيع منتجاتهم وشراء بعض الإحتياجات.    

وفيما بعد ظهرت دولتين مغوليتين أخريين، وهما دولة الإلخانات في فارس ، ودولة القبجاق أو القبيلة الذهبية شمال البحر الأسود.  وكانت دولة جغطاي أصغر الدول المغولية وأفقرها.  توفي جغاطاي في العام 1242، فتسلم الحكم في هذا الإقليم حفيد أوجوديه كايدو.  ولكن إسم جغطاي ظل يطلق على الدولة التي أسسها.  وبعد وفاة كايدو سنة 1301 إعتلى العرش عدد من الخانات من  المغول المسلمين.  وفي العام 1326 إعتلى طرمشيرين سدة الحكم فجعل الإسلام دين الدولة ، وتسمى علاء الدين، وقد قابله إبن بطوطة أثناء رحلته [7] .

   

حملة تيمور لنك

ولد تيمور لنك في العام 1336م، وهو إبن ترغاي أحد شيوخ قبيلة برلاس، ووالي كيش [8] .  وفي أواسط القرن الرابع كانت دولة المغول فيما وراء النهر تمر في حالة ضعف ، ويتعاقب على حكمها خانات ضعفاء.  فتمكن تيمور لنك من إغتصاب السلطة وحكم دولةجغطاي في العام 1364 مع إبقاء الخان المغولي يحكم بشكل صوري . وكان تيمور لنك مسلم يتكلم اللغة التركية ، وقد كان أصيب بإحدى رجليه فإكتسب لقب لنك أي الأعرج ، ولم يتلقب بأعلى من لقب أمير . 

وكان الضعف قد إعترى كذلك دولة المغول في تبريز .  فإجتاح خراسان وجرجان ومازندان وسجستان في العام 1381م. وغزا مازندان سنة 1384م.  وفي العام التالي هراة وخوارزم وسيستان فيما وراء النهر.  وفي العامين 1386 و 1387 أتم غزو فارس والعراق وأذربيجان .  وقد سبق خان القفجاق في غزو تبريز عاصمة المغول في فارس، فإشتعلت الحرب بين الخانين، فإجتاح تيمورلنك غرب أيران وأرمينيا وجورجيا وشمال العراق، ثم ألحق الهزيمة بخصمه المغولي تختمش خان

 

الحكام المعاصرين لتيمورلنك

مغول القفجاق

المماليك

العثمانيين

تيمورلنك

السنة

منكو تيمور

المنصور

مراد الأول

تيمور لنك

1370

 

 

 

 

1375

تودا منكو

برقوق

 

 

1380

توقطامش

 

 

 

1385

 

 

 

 

1390

 

 

بايزيد

 

1395

 

الناصر

 

 

1400

 

 

 

 

1405

 

القبيلة الذهبية في العام 1394، ومضى في توغله حتى وصل موسكو، وقد دمر ساراي ، عاصمة القبيلة الذهبية . ثم  تفرغ لبلاد الشام والأناضول ، التي إنتهى منها قبل العام 1395م. 

وكان تيمور لنك يعود إلى عاصمته بعد كل إنجاز عسكري  يحققه، فلم يكن يحفل بتنظيم الأقاليم المفتوحه، فقد كان يصرف كل طاقته بوضع الخطط العسكرية وتنفيذها.

وكان يعتقد أن واجبه كمسلم يحتم عليه توحيد العالم الإسلامي ، وإضطهاد المسيحيين، ولكنه إرتكب أعمالاً وحشية ضد المسلمين لا تقل عن تلك التي إرتكبها هولاكو في بغداد أو الصليبيون في القدس.

وفي العام 1398 هاجم سلطنة دلهي المسلمة، بحجة أن حكومتها كانت متساهلة مع رعاياها الهندوس.  فإستولى على دلهي بسرعة ونهبها وعاد سريعاً إلى سمرقند. 

ثم عاد وهاجم بلاد الشام فإحتل حلب ودمشق، وقد نهب جيشه دمشق وعاث فيها فساداً.  وقد إستخدم في هذه الحرب فيلة أحضرها معه من الهند.  وتروي بعض الروايات أن الشخصية التراثية جحا قابل تيمور لنك ، حيث إنتدبته قريته لمقابلة الخان ليطلب منه أن يبعد أحد فيلته الذي أتلف المزارع ، فلما رآه ملئ منه رعباً فقال له أن الفيل الذي يرعى في قريته يشعر بالوحدة ويحتاج إلى رفيق.

لم يحاول تيمور لنك غزو مصر، ولكنه إتجه شمالاً لمواجهة الدولة العثمانية.  وفي العام 1400 م كان على أطراف الأناضول ، حيث إستطاع إثارة الأمراء ( البيكوات ) الأتراك الذين جردهم العثمانيون من إماراتهم .  وفي معركة أنقرة سنة 1402 م ، أوقع المغول هزيمة منكرة بالعثمانيين ، حيث وقع بايزيد نفسه أسيراً بأيدي المغول .  بينما تمكن أولاده من الفرار إلى أوربا ، وبقوا هناك إلى أن بلغهم موت تيمور لنك .  الذي مات في طريقه لغزو الصين في العام 1405، حيث كان عمره 69 سنة ، ويقال أن الإشارات التي وضعها كشافة جيشه على أشجار الغابات ، تمهيداً للإجتياح ، يمكن مشاهدتها لغاية الآن.

مات بايزيد الصاعقة ( يلدرم ) ، كما كان يلقب ، في الأسر .  وهناك روايات أن تيمور لنك أساء إليه في المعتقل ، وأنه وضعه في قفص حديدي ، ولكن أغلب الظن أنه لم يفعل ، فتروي بعض الروايات أن تيمور لنك قام لإستقبال بايزيد لدى علمه أنه ببابه وأنه أجلسه بجانبه وعاتبه عتاباً مطولاً [9] .  ولكن هناك طرفة تروى أنه زاره في معتقله ، ولما رآه ضحك ، وعندما سأله بايزيد عن سبب ضحكه ، قال : " ألم تجد الأمة التركية ( على أساس أن المغول والأتراك من عنصر واحد ) غير أعرج وأعور ليصبحا ملكين عليها ؟. " وقد كان بايزيد قد فقد إحدى عينيه ، وكان تيمور أعرجاً .

عاشت الدولة التيمورية لمدة قرن ، وسرعان ما تقاسمت إمبراطوريتهم دول أخرى، مثل الدولة العثمانية في الغرب، والدولة الصفوية في فارس، وظهور الأوزبك في وسط آسيا.  ولكن أحد أحفاده تمكن من إقامة إمبراطورية كبيرة في الهند إستمرت حتى العام 1857م.

 

أبناء بايزيد

لم تقتصر متاعب العثمانيين على هزيمتهم في معركة أنقرة وموت قائدهم المظفر ، ولكن تبع ذلك تكالب الأمراء الأتراك والسلاجقة الذين أخذوا يطالبون بمدنهم وقلاعهم وأراضيهم التي فقدوها للعثمانيين طوال القرن السابق .  كما حاولت القسطنطينية إستعادة بعض ممتلكاتها . كما أن أبناء بايزيد لم يتفقوا فيما بينهم.  فقد أسس كل منهم مملكته ، فحكم سليمان شمال اليونان وتراقيا والبلغار، وحكم عيسى اليونان وغرب الأناضول ، ولكن سليمان إستطاع أن يجردها من عيسى .  وكان محمد يحكم من بورصا ، حيث إستطاع أن يستعيد بعض الإمارات التي أحياها تيمور بعد إنسحابه من الأناضول .  كما هادن القسطنطينية وأعاد لها بعض ممتلكاتها .  وكان لهم أخ رابع كان قد وقع في الأسر مع أبيه ، إسمه موسى .  عاد موسى من الأسر بعد إطلاق سراحه ، فتحالف مع أخيه محمد ، فأرسله على رأس جيشٍ كبير لمهاجمة سليمان في البر الأوربي ، فقام بإعلان نفسه سلطان الدولة العثمانية .  فأرسل محمد جيشاً خلفه ولكنه هُزم .  ولكن أرسل جيشاً آخر بعد ثلاث سنوات وهزم موسى ، ثم هزم سليمان، وأصبح محمدالأول ( 1402- 1421 )  سلطان الدولة العثمانية الموحدة.

كان محمد محباً للعلم والثقافة ، وأسس مدرسة في بورصة . 

وبعد وفاته تولى الحكم إبنه مرادالثاني ( 1421 – 1451 ) .  واجه مراد الثاني ، الذي تسلم الحكم في سن الثامنة عشرة ،  حركتين للإطاحة بحكمه ؛ الأولى قادها مصطفى شلبي ، الذي كان معتقلاً في القسطنطينية وأطلقة الإمبراطور البيزنطي ، مقابل أن يعيد إليه عدد من المدن المهمة .  فأعلن مصطفى نفسه الوريث الشرعي لبايزيد ، فإنضم إليه عدد كبير من الجنود ، ولكن مراد إستطاع أن يهزمه ، حيث أظهر السلطان الشاب قدرات عسكرية ومهارات سياسية فائقة.  بعد ذلك صمم مراد على فتح القسطنطينية ، فأنشأ جيشاً جديداً وحاصر القسطنطينية .  وبينما كان مراد محاصراً للقسطنطينية ، إذ ثار عليه أخوه الصغير البالغ من العمر ثلاثة عشر عاماً ، بتحريض من البيزننطيين وبعض الأمراء المستقلين من الأتراك.  فإضطر مراد إلى فك الحصار وواجه جيش أخيه وهزمه. 

ثم خاض مراد حروباً مع الكرمان والصرب والمجر والبندقية . فإنتصر فيها جميعاً .  وفي العام 1444 خاض مراد وكسب معركة فارنا ضد تحالف الإمبراطورية الرومانية المقدسة وبولندة وألبانيا وصربيا والمجر ، ولكنه خسر معركة جالواز ، مما إضطره أن يتنحى عن الحكم ، ولكنه عاد وإستلم الحكم بعد أربعة أعوام ،  بعد تدخل الإنكشارية .  وفي العام 1448 هزم تحالفاً أوربياً آخر ، ثم إتجه شرقاً وهزم تحالفاً تركياً مغولياً ، فقد هزم إبن تيمور لنك شاه روخ المتحالف مع الكرمانيين وغيرهم.

مرض مراد أثناء قيادته لحملة على ألبانيا في شتاء 1451م وتوفي في أدرنة .

تولى محمدالثاني (  1451 – 1481 ) بعد وفاة أبيه،  وخلال سنتين إستطاع فتح القسطنطينية .          

 

حروب الصليبيين في المتوسط  

قام أسطول أرجوني منطلقاً من جزيرة صقلية، بعد سيطرة أرجون عليها بإحتلال جزيرة جربة ، على الرغم من مقاومة أهلها الباسلة .  وكان أسطول من سبعين سفينة قد هاجم المدينة وعاد محملاً بالسبايا والغنائم ، وقد سيطروا على ثلاثين سفينة كانت راسية في ميناء الجزيرة ، فحملوها بالغنائم وعادوا إلى صقلية، بعد أن تركوا فيها حامية وبنوا فيها حصناً وغرموا أهلها مائة ألف دينار كل سنة [10] .  وكانت جزيرة جربة تحت حكم الحفصيين .  وبقيت الجزيرة تحت حكم الأرجونيين لغاية العام 1310م حيث تمكن أهلها بمساعدة الحفصيين من طردهم ، وحاولوا تنصير أهل الجزيرة ، فأقاموا الكنائس .   

وقد عاد أسطولاً أوربياً مشتركاً إلى إحتلال الجزيرة سنة 1388 ودام بقائهم بها إلى العام 1392م، حتى تمكن أهلها من طردهم .

في سنة 1365 وفي عهد السلطان المملوكي شعبان هاجمت قوة مشتركة من قبرص والبندقية وفرسان رودس الإسكندرية ، وأطلقوا يد السلب والنهب فيها لمدة ثلاثة أيام .  وقبل أن يصل المدد من القاهرة غادر الأسطول مصطحباً خمسة آلاف من الأسرى.  وكان " يلبغا " اليحياوي يسيطر على الحكم وكان جائراً.  فزاد الضرائب على المسيحيين، ليمول تجهيز أسطول، أو ليدفع فدية فطلاق سراحهم. 

وفي العام 1368م وصل وفد فرنسي ، عارضاً الصلح.  فقام يلبغا بحجز الوفد ، وأخذ يستعد للحرب.  فهاجم أسطول قبرص الإسكندرية ثانيةً وسواحل الشام، ولكن هذه المرة، ولكنهم رُدوا وقد تكبدوا خسائر.  وطوال ذلك العام إستمرت المناوشات.  ثم تم الصلح، حيث أُعيد الأسرى وأُعيد فتح كنيسة القيامة ، وكان المماليك قد أغلقوها [11] .

في العام 785هـ ( 1387م ) هاجم أسطول جنوي بيروت وصيدا، وتمكن جنود الأسطول من السيطرة على بعض الأبراج في بيروت ، وساندهم الفرنج المقيمين فيها.  فتصدى لهم حاكم دمشق وهزمهم وقتل منهم عدداً كبيراً وفر الباقون إلى مراكبهم [12] .

وفي نفس السنة هاجم الجنويون دمياط ورشيد، فتصدى لهم المماليك ومنعوهم من دخول أيٍ من الثغرين.  كما جرت معارك بحرية بين أسطوا المماليك وأسطول الجنويين.  وكانوا يهدفون من ذلك الضغط على المماليك للحصول على إمتيازات تجارية في مصر والشام.

وفي العام 1390 قام أسطول مشترك من جنوة وبيزا وصقلية بمهاجمة طرابلس، ولكن ريح هبت وتسببت في غرق إحدى السفن مما تسبب في إنسحاب باقي الأسطول والتوجه غرباً حيث هاجموا أهداف تابعة لتونس ، ولكنهم هُزموا وقُتل منهم الكثير [13] .

وفي العام 1403 هاجم الفرنج الإسكندرية ، وفي العام 1404م هاجموا طرابلس ونهبوها ، وفي نفس السنة هاجم أسطول قبرصي قوامه أربعون سفينة بيروت وأحرقوا المدينة وخربوا مدن ساحلية أخرى مثل طرابلس وصيدا وغيرهما [14] .

وقد إستمرت التعديات على المدن الساحلية بين الطرفين تحت ذرائع مختلفة حتى العصر الحديث .

 

أرمينيا الصغرى

وتسمى أيضاً مملكة كيليكيا، وهي دولة تأسست في العام 1078م شمال خليج الإسكندرونة من قبل لاجئين أرمن إضطروا للإنتقال من بلادهم أرمينيا، الوافعة في القفقاس.

وقد تأسست على يد السلالة الروبينية وهي فرع من عائلة مالكة حكمت في أرمينيا لفترة طويلة من الزمن، وهي البغراتية .  وقد شهدت هذه المنطقة الحدودية فراغاً سكانياً ناجماً عن قرون من الحروب بين بيزنطة والمسلمين، مما سهل على الأرمن تشكيل دولتهم، حيث إتخذوا من مدينة سيس عاصمةً لهم.  وكان من مدنها المعروفة طرسوس وأضنة وميناء اياس.

وكان نقفور فوكاس قد إستعاد الإقليم من المسلمين في سنة 965م، حيث شجع جماعات من الأرمن وجماعات مسيحية أخرى أن يسكنوا في مدنه وقلاعه.  وفي عهد باسل الثاني تم الإستيلاء على مناطق واسعة إلى الشرق في شمال سوريا، مما وسع الوجود الأرمني في هذا الإتجاه.  وقد كان هذا قبل ظهور السلاجقة ، وبعد إنتهاء دولة الحمدانيين في الشام .  وقد زادت الهجرة الأرمنية نتيجةً لضم أرمينيا للدولة البيزنطية في العام 1045م، وعندما ظهر السلاجقة هاجموا أرمينيا التي أصبحت ولاية بيزنطية، فنجم عن ذلك موجة أخرى من الهجرة إلى كيليكيا.

ومع عودة التوازن بين الروم والمسلمين نتيجةً لظهور السلاجقة، عادت حالة الفوضى تسود في وسط الأناضول.  فتمكن كثير من الأرمن، الذين كانوا في خدمة الدولة البيزنطية ، أن يقيموا كيانات تتبع ولو إسمياً للقسطنطينية.  وإنفرد من بينهم فيلاريتوس، الذي إستطاع سنة 1078 من تأسيس دولة واسعة في كيليكية وأوديسا إلى الغرب، وحكمها لغاية العام 1085م، حيث دعا العديد من النبلاء الأرمن وأقطع لهم قلاع وأراضي واسعة.  ولكن بعد وفاته تفتت دولته إلى كيانات أصغر، يحكمها أمراء عديدون.  وكان أحدهم يسمى روبين تربطه علاقة قربى قوية بالعائلة البغرتونية ، التي كانت تحكم في أرمينيا.  قام روبين بالثورة على الدولة البيزنطية ، وإنضم إليه عدد من الأمراء الأرمن فظهرت في العام 1080 إمارة كيليكية الأرمنية المستقلة.  وكان بجانبها ستة إمارات أرمنية أخرى، مثل مرعش والرها وملطية، وكان بعضها يدين بالولاء للسلاجقة .

وفي الوقت المناسب ظهر الصليبيون في الأناضول ، وكانت كيليكيا في طريقهم فوضعوا أنفسهم بخدمتهم ، وقدموا لهم التسهيلات وتحالفوا معهم.  فقام الصليبيون بتأسيس إثنتين من إماراتهم الأربعة في المناطق التي كان يسيطر عليها الأرمن أو كان لهم فيها تواجد كثيف، وهما أنطاكيا والرها. 

ولكن الصليبيين أساؤوا معاملة الأرمن ، مما سهل سقوط إمارة الرها في مرحلةٍ مبكرةٍ على يد عماد الدين زنكي، الأمر الذي جعل المؤرخين الأوربيين يشجبون دور الأرمن ويعتبرونهم خونة.

مع التطورات الناجمة عن هزيمة المسلمين على يدي الحملة الصليبية الأولى، تزايد الوجود البيزنطي في المنطقة فحرصت على أن تكون كيليكيا تابعة لها وأن يسلمها الصليبيون أنطاكيا.  الأمر الذي خلق وضعاً سياسياً غير مستقر في كيليكيا.  فإختلف الأرمن مع الروم على السيادة على الإقليم.  وظهر في بداية القرن الثاني عشر الأمير ليون الأول، الذي تمكن من ضم الأجزاء الساحلية لإمارة كيليكيا.  ولكن الإمبراطور البيزنطي جون الثاني تمكن من هزيمة ليون الأول في العام 1137م، وتمكن من أسره حيث مات في الأسر بعد ثلاث سنوات.  وتمكن إبنه ثوروس الثاني من الهرب من الأسر وأن يعود إلى كيليكيا حيث قاد النضال ضد بيزنطة، ولكن في العام 1158م إتفق الطرفان على أن يدفع الأرمن إتاوة للروم، وذلك في عهد الإمبراطور مانويل الأول.

وفي العام 1187م ، وهو العام الذي تلقى فيه الصليبيون ضربة قاسمة في حطين وما تلاها من فقدان معظم المدن والقلاع بما في ذلك القدس، إعتلى العرش ليون الثاني .  وفي زمنه تغيرت الخاطة السياسية في سوريا.  فكان عليه التعامل مع أمراء مسلمين في كلٍ من قونية وحلب ودمشق.  مما جعله يركز على بناء جيش قوي ويحصن حدود إمارته. 

وقد إستفاد من ظروف الحملة الصليبية الثالثة، التي وصلت براً، مثل الأولى، فتلقى دعماً سياسياً من أباطرة الإمبراطورية الرومانية المقدسة، فريدريك بربروسا، الذي مات غرقاً في كيليكيا، وإبنه هنري.  نجم عن ذلك إعلان نفسه ملكاً بدلاً من أمير. 

إنتهى حكم عائلة روبين وإنتقل الحكم إلى عائلة هيثوم من خلال إبنة ليون زابل، التي تزوجت الأمير هيثوم، الذي أصبح هيثوم الأول.  ويذكر إبن الأثير رواية عن حرب وقعت بين أمير أنطاكيا الصليبي والأرمن ، بسبب زواج إبنة ليون من إبن امير أنطاكيا ، ثم قيام الأرمن بسجن صهرهم الصليبي خوفاً من أن يستأثر بالحكم [15] .  ويبدو أن مصدر إبن الأثير لم يكن دقيقاً، إذ أن إبنة ليون تزوجها أمير أرمني من أسرة أخرى .  ويبدو أن للحرب بينهما أسباب أخرى .  

تحالف هيثوم الأول مع المغول، بل حارب معهم، وكان محرضاً ، كما حاول إقناع هولاكو أن يتحول إلى المسيحية.

وفي العام 1281م ، شارك ليون الثالث ملك كيليكيا مع المغول في معركة حمص ، وهُزم معهم بينما بقي الصليبيون على الحياد ملتزمين بالهدنة المعقودة بينهم وبين المماليك.  وقد قتل ليون الثالث أثناء عودته إلى بلاده.

وفي العام 1299 م شارك هيثوم الثالث في القتال مع المغول ، وعندما إنتصروا على المماليك كتب لملوك أوربا يستحثهم على إحياء الحروب الصليبية.

وفي العام 1302 سير السلطان المملوكي الناصر جيشاً لمعاقبة الأرمن على مساعدتهم للمغول.  فزحفت على سيس وخربها، وفي الأعوام القليلة التالية هاجمها مرتين وخرب حصن تل حمدون وقتل من فيه [16] . 

وخلال عقود أصبحت عرضة للهجوم من قبل المماليك والمغول ، حلفاء الأمس، مما أجبر ليو الخامس على دفع إتاوة [17] .  ولكنهم كانوا ينتهزون فرصة إنشغال المماليك فيهاجمون شمال سوريا، كما فعلوا في العام 1314 حيث هاجموا عدة مواقع.  فقام ولاة شمال سوريا بتوجيه ضربة إنتقامية ضد تسع مدن في كيليكية، وقد شارك أبو الفداء، الذي كان نائب حماة، منع الجنود من إرتكاب أعمال النهب والسلب دون طائل [18] .

إستمر الهيثوميون بحكم كيليكيا إلى العام 1341م .  ففي هذا العام حاول حكام قبص الصليبيون ، الذين كانت تربطهم صلة قرابة بحكام كيليكيا، أن يحولوا الأرمن إلى الكاثوليكية .  فبينما لم تمانع الطبقة الحاكمة ، نشبت ثورة في أوساط الفلاحين نجم عنه مقتل ملك كيليكيا ليون الخامس ، ووضع نهاية لحكم أسرة هيثوم.

وفي العام 1361 هاجم جيش مملوكي كيليكية وإستولى على المصيصة وطرسوس وأضنة ، وترك فيها حاميات .

وفي العامين 1374 و1375 هاجم المماليك كيليكيا فإعتصم ليون السادس ، ملك كيليكيا ، في بحصنه الجبلي ، ولكنه إضطر للتسليم ، حيث أُخذ إلى القاهرة.  وبعد سنوات سُمح له بالرحيل إلى باريس بعد وساطة ملك قشتالة [19] .

وإنضم التاج الكيليكي إلى التاج المقدسي والقبرصي، فأصبح ملك قبرص جيمس الأول أيضاً ملك كيليكيا والقدس.    

 

 

الخراب الذي تركه تيمورلنك

إنتهت الحروب التيمورية ولم تترك وراءها سوى الدمار فلم تثحدث تغييرات سياسية أو تحولات ذات قيمة، ولكن أثرها على الإقتصاد كان مدمراً.  فالمتتبع لتاريخ سوريا في العقود التي سبقت حرب المغول بقيادة تيمورلنك سيلاحظ أن حركة البناء كانت مستمرة وأن التجارة نشطة وأن التعليم مزدهر.  فقد كان هناك عدد كبير من المدارس في دمشق والقاهرة والقدس وحلب وحماة وغزة وصفد، على الرغم من أن النظام السياسي لم يكن قوياً وكان يعتريه بعض الفساد.

كما ظهر في هذه الفترة الكثير من العلماء والأطباء، وكانت الصناعة مزدهرة.  لقد كانت مرحلة واعدة.  ربما لو لم تتوقف بهذا الشكل المأساوي لأنجبت مخترعين ومخترعات كثر.  

 

 

 

 



[1]  رحلة إبن بطوطة .

[2]  رحلة إبن بطوطة .

[3] Roman Empire, Gibbon, VIII.

[4] Roman Empire , Gibbon, VIII.

[5] Roman Empire, Gibbon, VIII.

[6] Roman Empire, Gibbon, VIII.

[7]  رحلة إبن بطوطة .

[8]  تاريخ المماليك في مصر وبلاد الشام ، طقوش .

[9] Roman Empire, Gibbon, VII.

[10]  إبن خلدون .

[11]  تاريخ دولة المماليك في مصر، السير وليم موير.

[12]  المقريزي .

[13]  المقريزي .

[14]  تاريخ دولة المماليك في مصر ، السير وليم موير.

[15]  إبن الأثير .

[16]  تاريخ دولة المماليك في مصر، السير وليم موير.

[17]  تاريخ دولة المماليك في مصر، السير وليم موير.

[18]  تاريخ المماليك في مصر وبلاد الشام ، د محمد طقوش.

[19]  تاريخ دولة المماليك في مصر، السير وليم موير.


 
 

 


تعليقات

لا يوجد تعليقات

الإسم   
البريد الإليكتروني (ليس للنشر)    
التعليق  
هل توافق على الانضمام لمجموعتنا البريدية؟
  أرسل

 

Counter