كتاب " نحن واوربا " - الجزء الثالث - الفصل الخامس عشر - عصر النهضة الاوربية
 
 



الفصل الخامس عشر

 

عصر النهضة الأوربية

 

بوادر النهضة الأوربية

يبدو أن نتاج الحضارة الإغريقية والرومانية ، وهو نتاج أوربي ، لم يستطع أن يمنع أوربا من الوقوع في عصور مظلمة من التخلف والفقر والتمزق والجهل .  وقد يكون للكنيسة دور ، التي حاربت الثقافة التي كانت سائدة قبل المسيحية ، وبما أن هذه الثقافة كانت وقود هذه المقاومة ، فأن رد فعل الكنيسة كان قوياً .  وقد حصل الشيء نفسه لدى الإسلام ، الذي حارب ثقافة وقيم العرب القديمة وسماها جاهلية .  ولكنه أقر ببعض القيم الإيجابية وشجعها ، كما أبقى بعض شعائر الحج التي كان معمولٌ بها قبل الإسلام .

إن إختفاء العلوم والمعارف الإغريقية من أوربا أمرٌ محير ، يمكن أن أن نفهم أن تحارب الكنيسة الفلسفة الإغريقية ، ولكن أن تحارب الهندسة والرياضيات والجغرافية الإغريقية فأمرٌ محير .  والأغرب من ذلك أداة مثل الإسطرلاب المستخدمة في الملاحة والتي إخترعها الإغريق ، كيف لم تعرفها أوربا ، التي كان كثيرٌ من شعوبها ملاحين مهرة ويحتاجون إلى آلة من هذا النوع ، حتى جاء بها العرب من خلال الأندلس ، هل حقاً كانت إختراعاًًًً أوربياً ؟  إغريقياً ، لا شك !. ولكن ربما كان إختراعاً سورياً أو مصرياً في زمن هيمنة الثقافة الإغريقية ، فوردت بكتاب مؤلف باللغة الإغريقية .

وفي زمن الإمبراطورية الرومانية الموحدة بقيت اللغة الإغريقية هي لغة البحث والعلم ، والكتب القليلة المخطوطة باللغة اللاتينية لم تتعدى كونها مقتطفات لأعمال قديمة ، وقد جرت محاولات لترجمة كتب إغريقية إلى اللاتينية ولكنها لم تكلل بالنجاح .  

ومنذ إغلاق أكاديمية أثينا على يدي الإمبراطور البيزنطي جوستنيان ، جرت محاولات للخروج من حالة التخلف المهيمنة على الغرب بكامله .  وتراجعت المعارف الإغريقية ،  وجدت أوربا الغربية نفسها معزولة عن الثقافة الإغريقية ، كما عزلت نفسها عن الثقافة الإسلامية في مرحلة لاحقة .  ولم يكن بمتناول الإنسان الأوربي المتعطش للمعرفة من مراجع سوى أعمال بويثيوس المتوفي سنة 524م ، وأعمال اخرى غيرها محدودة العدد.  

في عهد الملك القوطي ثيودوروسالكبير ( 488 – 526 )، الذي حكم في إيطاليا، والذي كان لديه مستشارين أفذاذ مثل كاسيو دوروس ، والذي كان محباً للعلم، حيث جرت في عهده محاولة لإحياء المدارس الرومانية القديمة ، ومعاهد الطب.  وفعلاً شاركت إبنة الملك في إحياء المعاهد والعناية بها.  ويعود حبه للعلم إلى نشأته في القسطنطينية كرهينة لدى الروم ، فتلقن ثقافتهم وتطبع عليها. 

وفي هذه الفترة تم إفتتاح دير مونتو كاسينو على يدي الراهب بنديكت ، فقام كاسيو بتوجيه الدير إلى العناية بالأعشاب المفيدة طبياً . فأصبحت الطبابة مرتبطة بالرهبنة البندكتية، التي إنتشرت في أوربا، وبقيت معتمدة على ترجمات غامضة وشروحات قديمة لمؤلفات يونانية وبيزنطية.  وبعد ثلاثة قرون تعززت هذه التجربة بالمعارف المترجمة عن العربية فحققت نقلة نوعية [1] .  إلا أن الرهبان كانوا يخلطون بين واجبهم كمعالجين وواجبهم كرجال دين.  فكانوا يقدمون الإعتراف على العلاج.  بينما كان معظم الأطباء العرب من المسيحيين ولم يكونوا يخلطوا بين الطب والدين .

وفي عهد شارلمان ، حاول أن ينشر التعليم .  ففرض على كل كنيسة أن يكون فيها مدرسة .  وقد قاد هذا الجهد الراهب الإنكليزي الكوين ، الذي وضع المناهج التي تعتمد على سبع علوم ؛ القواعد والخطابة والمنطق والحساب والهندسة والفلك والموسيقى .  وقد إرتبطت المدارس بالكاتدرائيات والأديرة والكنائس ، أو بلاط الأمراء .  ولكن هذا الجهد توقف عندما تقسمت الإمبراطورية الفرنجية بعد وفاة شارلمان ، ولكن بعد عدة قرون تحولت بعض المدارس التي أسسها في الكاتدرائيات الكبيرة إلى جامعات .

 

فوتيوس وألأسرة المقدونية

شهد عهد الأسرة المقدونية ، التي حكمت في بيزنطة في القرن التاسع فترة هدوء ورخاء ناجم عن مرحلة ضعف الدولة العباسية ، وقبل ظهور السلاجقة.  وعلى الرغم من إنشغال الدولة البيزنطية في حروب بادرت بها ضد المسلمين حققوا فيها بعض الإنجازات ، فإن إحساس القسطنطينية بالتهديد الإسلامي قد تراجع في هذه الفترة .

وقد أُشتهر أباطرة هذه الأسرة بتدوين خلاصة القوانين والعلوم والتقاليد البيزنطية في ستين مجلداً ، تضمنت مواضيع من الزراعة إلى الحرب والمراسيم الملكية وتنظيم الدولة والأحوال الشخصية .  وقد تزامن هذا مع عملية إحياء للغة الإغريقية وإعادة الإهتمام بكتابات الإغريق القدماء.  وقد حدث هذا بتشجيع من الأباطرة، الذين رعوا المدارس والمعاهد، لدرجة فتح مدرسة في القصر الإمبراطوري.  وقد برز قبل هذه المرحلة فوتيوس، الذي كان عالماً في اللاهوت وعلوم دنيوية متعددة.  وقد كان من الخطورة حيث عدة الغرب مهندس الإنقسام الكنسي بين الشرق والغرب [2] .  وهو من مواليد سنة 815 م .  وكان أباه أحد أفراد الحرس الإمبراطوري ومن عائلات القسطنطينية العريقة ، وأمه راهبة هاربة، وبالتالي فهو يعتبر غير شرعي .  وقد سمي فوتيوس ، أي متنور.  ونبغ فوتيوس في دراسته منذ صغره ، وقد برز في فروع مختلفة من العلوم ، على الرغم من أنه لم يدرس على يدي أساتذه معروفين .  وقد نبغ في النحو والشعر والبلاغة والفلسفة والطب والقانون .  ثم بدأ يُدرس هذه العلوم في منزله، فقصده عدد متزايد من الطلاب ، وقد كان يفعل ذلك باللغة الإغريقية ، ولم يكن يتقن اللغة اللاتينية ، وهذا أمرٌ مستغرب في ذلك الوقت ، ولكن كان له دلالاته. 

وقد ساعد على صعوده زواج أخيه من عمة الإمبراطور ، هذا بالإضافة إلى ثقافته وقدراته التي زكته ليصبح الأمين العام للدولة وقائد الحرس الإمبراطوري .  كما كان مرجعاً دينياً ، فجمع بين المناصب الدينية والسياسية والعسكرية. 

وفي العام 838 م أُرسل بسفارة مزدوجة إلى بغداد، فقد أُرسل إلى الآثوريين، وهم طائفة مسيحية تقطن شمال العراق كانت على المذهب النسطوري في ذلك الوقت [3] .  كما قابل الخليفة المعتصم، وقد كان في الثالثة والعشرين من عمره حينئذٍ.

وفي العام 857 م كان فوتيوس من أهم الأشخاص في البلاط البيزنطي.  فقد اصبح بطريرك في ظروف سياسية وتطورات عقائدية أدت فيما بعد إلى تعميق الإنشقاق بين الكنيستين .  وقد أعده البعض مغتصباً للبطريركية ، وكان من بينهم البابا ، الذي أرسل موفدين للتحقيق ، فتوصل البابا إلى قرار بعزل فوتيوس ، وأصر عليه .  ورفض ذلك الإمبراطور، وبعد ذلك أصدر قراراً بحرمان البابا رداً على قرار حرمانه ورعيته سنة 867 م، وقد برر ذلك بخمس مخالفات يقترفها أتباع الكنيسة في غرب أوربا ، وهكذا أعطى بعداً عقائدياً للخلاف .

وفي نفس السنة تم الإطاحة بميخائيل الثالث وإعتلى العرش باسيل الأول المقدوني ، الذي عزل فوتيوس وأعاد منافسه إلى منصب البطريركية .  ثم عقد مجمع شارك فيه ممثلين عن الشرق والغرب أقر عزل فوتيوس وحرمانه ونفيه. 

ومن منفاه عمل فوتيوس على كسب الإمبراطور من خلال مكاتبات قام بها .  فإستدعاه باسيل ليتسلم تعليم إبنه قنسطنطين .  ثم عمل على التصالح مع خصومه ، لدرجة أن أجمع الجميع على إختياره بطريركاً بعد وفاة البطريرك ،  ووافق البابا على ذلك .  ثم دعا فوتيوس بالتنسيق مع البابا إلى مجمع جديد في القسطنطينية ، ألغى قرارات المجمع السابق وأكد خلافاته مع اللاتين ، مما جعل البابا يصدر قرار الحرمان بحقه مجدداً ، فتجدد الإنشقاق ، وإستمرت القطيعة إلى أن مات الإمبراطور.

وقد كان له إهتمامات أخرى مثل محاورة أتباع الكنائس الشرقية ، ومراسلة الخلافة لرعاية الأماكن المقدسة .  كما كان يجد الوقت للكتابة في الفلسفة والقانون والعلوم الأخرى ، كما أنه لعب دوراً مهماً في تنشيط الحركة العلمية في ذلك العهد ، فكثرت المؤلفات ، كما أُعيد الإعتبار للغة اللاتينية .      

 

عوامل الإنبعاث الأوربي

مع إقتراب القرن الحادي عشر الميلادي على الإنتهاء بدأت بعض التغيرات تظهر بشكل متسارع على المجمعات الأوربية ، بحيث أدت بمحصلتها عملية ما سمي النهضة الأوربية والتي إستمرت لعدة قرون ونجم عنها إنتشار التعليم وتحسن الإقتصاد والنظم السياسية والإقبال على البحث العلمي والإكتشافات وتولي أوربا قيادة العالم والسيطرة عليه .

ففي حوالي العام 1000م توقفت هجمات القبلية في أوربا ، فقد توصل الفايكنج إلى انهم يمكن أن يجنوا أكثر من التجارة مما يجنوه من الغزو ، فإستقروا في الدول الإسكندينافية وفرنسا وبريطانيا .  كما إستقرت قبائل الماجيار ( المجر ) في دولة هنجاريا في وسط أوربا ، كدولة معترف بها وتربطها مع جبرانها معاهدات .  كما ضعف وجود الجماعات المسلمة التي شكلت لنفسها كياناً في جنوب وسط أوربا ,اتخذت الغزو والنهب نشاطاً أساسياً لها .  فنجم عن ذلك إستقراراً نسبياً للحدود بين الدول ، على الرغم من الحروب التي لا تنتهي بين أمراء أوربا وملوكها .  وقد أعطى ذلك الفرصة لإستصلاح أراضي زراعية واسعة شمال جبال الألب ، وبعضها كان صالحاً للزراعة في زمن الرومان ، ولكن وبسبب الإهمال تم إبتلاعه من قبل الغابات والمستنقعات .  وقد ساعد على نجاح هذا الجهد وعلى إنجاح الزراعة في الأراضي المستصلحة إرتفاع معدلات درجات الحرارة في أوربا إبتداءاً من هذه الفترة ولعدة قرون .  وهذا أدى إلى إستيطان مناطق أوسع مما زاد تعداد سكان غرب أوربا . 

وفي هذه الفترة بدأ دور المدن بالإنبعاث .  ففي أوج هيمنة الإقطاع هُجرت المدن ، وضعفت التجارة الدولية وخف الإعتماد على النقود وتراجع الإقتصاد .  فظهرت الكومونات ، وهي تحالفات أصحاب المهن والمهارات الذين هجروا الريف وإستقروا في المدن والحصون ، التي كان بعضها مهدم منذ العهد الروماني ، وأسسوا هذه الجمعيات والتحالفات لحماية أنفسهم من طغيان الكونتات والعصابات الخارجة عن القانون ، فقوى هذا التوجه المدن وأعاد للنقود دورها في التبادل التجاري مما نشط التجارة ودعم الإقتصاد.  ومن بين هذه المدن إختصت إيطاليا ، نتيجةً لوضعها السياسي والجغرافي ، بظهور مدن ذات سيادة ، أي مدن دول، سميت الجمهوريات التجارية ، لأنها إعتمدت على التجارة وإمتلكت أساطيل وأدارت شؤونها بنظام جمهوري على أسس ديمقراطية إلى حدٍ كبير .  وقد إرتبطت هذه المدن بعلاقات ، كثيراً ماكانت طيبة ، مع الدول الإسلامية ، بل تحالفت معها أحياناً ضد قوى مسيحية ، وفيما بعد ، وفي أوج النهضة الأوربية ، أصبحت هذه المدن مراكز إشعاع .  وقد نجم عن هذه العوامل مجتمعة تزايد كبير بعدد السكان ، وما جلب ذلك معه من تحولات إجتماعية وإقتصادية ، لقد بلغ عدد سكان أوربا في العام 1250 رقماً لم تبلغه إلا في القرن التاسع عشر رغم الطاعون والحروب. 

وفي هذه الأثناء فُتحت ثلاث نوافذ للمعرفة على أوربا ؛ في إسبانيا من خلال المدن الإسبانية المستعادة من العرب ، والتي إحتفظت ببعض السكان العرب وحافظت على علاقات مع المدن الأندلسية .  والنافذة الثانية كانت في صقلية التي إستولى عليها النورمان ولم يطردوا العرب منها ، بل شجعوا بقائهم في دولة قائمة على التسامح ومحبة للعلم .  أما النافذة الثالثة فقد كانت سوريا اللاتينية التي لم تكن على أطراف أوربا ، بل ذهبت أوربا بقدها وقديدها لتعاني من صدمة حضارية وفجوة ثقافية كبيرة .  ففي الأقاليم الثلاث قامت قوى أوربية بالسيطرة على مدن إسلامية تحوي مكتبات ، خاصة وعامة ، ومدارس ومصانع ومراصد فلكية ، كما وقع في أيديهم خبرات ومعارف يمتلكها أسرى ومواطنين في المدن المحتلة .  وقد شجع الإطلاع على هذه المعارف بعض الأوربيين إلى إعادة النظر في كثيرٍ من القضايا التي كان يُنظر إليها ، قبل ذلك ، كمسلمات ، وكان من بينهم توماس أكويناس . 

 

توماس أكويناس

نجح توماس أكيناس ، وهو عالم دومينيكاني في التوفيق بين الفلسفة الأرسطية واللاهوت الأغسطيني التقليدي في المدارس ، بحيث أطاح بعدم التوافق المفترض بين العقل والوحي ، إذ كان يؤمن أن كلاً منهما يشير بطرق مختلفة إلى الهدف نفسه .  وزعم توماس أكويناس أن رأي أرسطو عن الحكمة الطبيعية التي تدفع الناس لتحقيق الصالح الإجتماعي لا يصمد أمام العقائد المسيحية عن الخطيئة الأصلية : " فإن الرحمة الإلهية لا تستأصل الطبيعة البشرية ، ولكنها تأخذها صوب الكمال ".  ورأى أن الحكومة ، شيء جيد لأنها تهدف إلى تحسين الحياة الإجتماعية حتى لو كان الحكام من الكفار .  وإستمر بطرح الأفكار التحررية المتفائلة ، بحيث إستطاع التوفيق بين اسلوب الحياة المسيحية وسلسلة هائلة التنوع من الأولويات في الحياة اليومية للبشر [4] .  وبمرور الزمن أدت كتابات أكويناس ، الذي تأثر كثيراً بإبن رشد [5] ، إلى تعديل وجهة نظر الكنيسة بشكل عميق .  وقد كان لهذه الآراء الجديدة ، التي عرفت بالمدرسية Scholasticism اكبر الأثر في تحفيز روجر بيكون وغيره للإهتمام بالعلوم الطبيعية ، كما حثت غيره على الترجمة من العربية إلى اللاتينية ، الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه لنهضة علمية عظيمة .  

وتوماس أكويناس من رجال الأديرة ، التي لعبت دوراً كبيراً في الإنبعاث الأوربي ، ويلاحظ أن الذين تبعوا أكويناس وتحملوا أعباء الترجمة خلال العقود التالية كانوا جميعاً ديرين .  فالذين قادوا حركة الإصلاح الكنسي كانوا جميعاً من الديرين ، كما أن الكثيرين من الديرين غادروا الأديرة وتولوا مناصب حكومية .  وكانت الأديرة المراكز الوحيدة للتعليم في أوربا قبل تأسيس الجامعات ، كما كانت الأديرة يتم فيه نسخ المخطوطات ويحتفظ بها [6] .

 

الكاتدرائيات والأديرة

من المعروف أن الأديرة تقام في أماكن معزولة ، في الأرياف وفي الصحاري ، بينما تقام الكنائس في القرى والمدن ، وتقام الكاتدرائيات ، وهي كنائس كبيرة ، في المدن الكبيرة .  وقد كانت الأديرة تلعب دوراً معرفياً منذ إقامتها ، فقد كانت أماكن تقتنى فيها الكتب ، ويعمل الرهبان فيها على نسخ الكتب الدينية على الدوام ، كما تلعب دوراً في تعليم القراءة والكتابة وقواعد اللغة ،وكذلك أصول الدين والقانون .  وقد إتسعت مناهج بعض الأديرة لتشمل بعض العلوم مثل الطب والصيدلة . 

وعندما تعاظم دور المدن نتيجة لإتساع المبادلات التجارية ، إنتقل دور الأديرة ، تدريجياً وجزئياً ، إلى كاتدرائيات المدن الكبرى .  وقد صاحب هذا الإنتقال أمران ؛ الأول هو التحول من العمل ضمن نظام ديري صارم إلى نظام فضفاضاً إلى حدٍ ما يمنح هامشاً من الحرية يفيد كثيراً لخدمة الجهد المعرفي والبحثي ، أما الأمر الثاني فهو التحول إلى محيط مكتظ بالسكان .

وقد سبب ذلك في إنطلاق حركة التعلم وإكتساب المعارف ونشرها . 

 

حركة الترجمة الأوربية

على الرغم من المنابع الأوربية للحضارة العربية  فإن أوربا نفسها لم تستفد منها بصورةٍ مباشرة .  ويعود ذلك إلى محاربة الكنيسة للعلوم الإغريقية .  فقد أُغلقت المدارس ، ومن بينها مدرسة أثينا .  وأُحرقت المكتبات العامة ، أما الكتب الموجودة في الكنائس والأديرة ، فقد كُشط غالبيتها وأُستخدمت صفحاتها المصنوعة من الرق في نسخ كتب دينية ، كما وُضع الباقي في أماكن مغلقة .

لقد جاءت نهضة أوربا بعد ترجمة الكتب اليونانية ومشروحاتها والكتب العربية الأخرى عن اللغة العربية .

وعلى الرغم من أن مشهد حرق الكتب تكرر في كثير من المدن الإسبانية ، إلا أن الأندلس والممالك الإسبانية المجاورة لها لعبت دوراً كبيراً  في إيصال الحضارة العربية لأوربا وحثها على النهل منها وتقبل التحدي المتضمن بالفارق الحضاري مما نجم عنه نقد ومعارضة وشرح وتبسيط وتطوير وإضافات وإبتكارات قدمت للبشرية حضارة جديدة متفوقة ومستدامة . 

أسس المطران ريموند في طليطلة معهداً لترجمة الأعمال العربية إلى اللاتينية ، وعهد برئاسته إلى رئيس الشمامسة دومينيك جانديسالفي .  وكان من أشهر المترجمين روبيرت الكيتوني ، وأديلارد الباثي ، وهما إنجليزيان ، وجيرارد الكريموني من إيطاليا ، الذي ذهب إلى إسبانيا ، وعندما نقول إسبانيا نقصد الدول الإسبانية مثل ثشتالة وأرغون ، التي شكلت جسراً عبرت عليه الثقافة العربية إلى أوربا ، وليس الأندلس نفسها التي كانت البر الآخر المربوط بالجسر.  وذهب جيرارد لينقل كتاب معين . ولكنه عندما شاهد الكم الهائل من الكتب العربية " في كل موضوع "، كما كتب في مذكراته، قرر البقاء وتعلم العربية ليقوم بالترجمة  .  كما ساهم في الترجمة بعض اليهود مثل ابراهام بن عزرو [7] .

وقد دعم ألفونسو العاشر ، ملك قشتالة ، الملقب بالحكيم ، هذه الحركة المسماة برنامج الترجمة  program of translation ، والتي تركزت في طليطلة في الفترة من 1050 إلى 1250م.  وقد كانت طليطلة تعج بالمتكلمين باللغة العربية ، الذين تحولوا إلى الدين المسيحي .  وقد كانت طليطلة مركزاً تعليمياً ، وقد حافظت على كنوزها الثقافية والعلمية عندما إستولى عليها إلفونسو الخامس سنة 1085م.  وقد جرت العادة أن يأتي أساقفة طليطلة من فرنسا ، فلم يكونوا يتقنون اللغة العربية ، على عكس رجال الكنيسة الإسبان .  ولذلك فقد نشأت ضرورة لإقامة قسماً للترجمة من العربية إلى اللاتينية لفائدة رجال الكنيسة الفضوليين منذ عهود مبكرة ، وبهذا بدأت تقاليد الترجمة في طليطلة وليست في قرطبة أو إشبيلية .

وفي العام 1142 أشرف يوحنا المعصوم رئيس دير كلوني على ترجمة القرآن ، حيث وظف روبيرت الكيتوني وهيرمان الكارنثي وشخص مسلم إسمه محمد.  وهذه الحالة تدل على الطابع المنظم للترجمة.   

وفي صقلية سادت حالة غريبة على تلك العصور حيث تعايشت اللغات العربية والإغريقية واللاتينية طوال عهد النورمان، مما جعلها مكاناً نموذجياً للترجمة والنقل والنسخ والكتابة .  فظهر يوجين الصقلي وهنري أرتيسبوس وغيرهما.

 

قسطنطين الإفريقي

وهو من سكان قرطاجة وولد بها في العام 1020م ، وكمسيحي كان يتقن اللغة اللاتينية .  وقد دُعي من قبل ألفانو الأول أسقف ساليرنو لترجمة الكتب الطبية العربية لمدرسة الطب فيها ، التي تعد أول مدرسة طبية منظمة في أوربا .  حيث قام بترجمة الكتب الإغريقية المترجمة إلى العربية ، كما ترجم الكتب العربية إلى اللغة اللاتينية .  وقد أصبح طبيباً مشهوراً .  وكان قد تجول في الشرق وأتقن عدة لغات شرقية .  وقد ترجم 37 كتاباً .    

يعد أديلارد الباثي من أشهر مترجمي هذه الحقبة ، فهو عالم إنكليزي عاش في القرن الثاني عشر ، وقد إهتم بالفلك والتنجيم والفلسفة والرياضيات .  كما ترجم الكتب الإغريقية المترجمة إلى اللغة العربية .  وقد سافر أديلارد إلى شمال إفريقيا وبلاد الأناضول وصقلية والشام ، بحثاً عن مخطوطات .  مثلما كان يحدث في زمن المأمون ، من ذهاب المتعطشين إلى مخطوطة ليترجموها فيسافروا طلباً لذلك إلى اليونان والأناضول . 

لقد قام يترجمة الخوارزمي وجداوله الرياضية ، كما ترجم كتاب وضع له عنوان " مدخل إلى علم الفلك " ، وضع فيه آراءه ، مثل إعتقاده بكروية الأرض .  كما ألف كتاب " المسائل الطبيعية " وفيه يبدي إعجابه بنظرة العرب العلمية وبخاصة المسائل التجريبية في العلوم العربية ، وكان يقول أن ما تعلمه من أساتذته العرب أن الطبيعة لا تقوم عشوائياً ودون حكمة [8] . 

وجد أحد العلماء الإنكليز في أوائل القرن العشرين مقالتين هندسيتين قديمتين في مكتبة وستر ، إحداهما كتبها ادلارد في أوائل القرن الثاني عشر باللاتينية مترجمة عن العربية ، وكانت معتمدة في التدريس لغاية عام 1853م [9] .

والمترجمين الأوربيين ، مثل العرب ، لم يكونوا مجرد مترجمين ، بل علماء ورواد ، وهم برأيي أبطال هذه المرحلة .

 

روبيرت الكيتوني

عاشفي القرن الثاني عشر ، وقد كان لاهوتياً وفلكياً ومستشرقاً .  وقد سافر إلى فلسطين برفقة هيرمان دالماتين ، حيث مارسوا الترجمة من اللغة العربية .  ثن إنتقل إلى إسبانيا لترجمة المزيد من الكتب العربية ، حيث إلتقى بروبيرت شيستر ، الذي نشط في الترجمة في أربعينيات القرن الثاني عشر أيضاً.  وعلى الرغم من الدعم الذي كان يتلقاه من الكنيسة فقد كان يفضل ترجمة الكتب العلمية، فقد ترجم البتاني وإقليدس .  وقد كان الدعم والتشجيع يأتي من خلال الفرنسي بيتر المعصوم .  الذي سافر إلى إسبانيا لمتابعة مبعوثيه ، حيث طلب من روبيرت ترجمة القرآن .  وفعلاً قام بهذه الترجمة، وبقيت معتمدة لغاية القرن السادس عشر ، حيث ظهر ترجمات أدق.

 

جيرارد الكريموني

وقام بترجمة أعمال جابر بن حيان سنة 1187م .  وهو إيطالي وعمل في إسبانيا، وتحديداً في قشتالة، حيث دفعه حبه للفلسفة وعدم وجود كتب في الفلسفة في بلاده إلى السفر ، حيث تعلم العربية في مدرسة للمترجمين .  وكانت طليطلة قد سقطت بيد القشتاليين سنة 1085م ، وعمدوا إلى المحافظة على مكتباتها ، فكانت جنة بالنسبة لعشاق المعرفة من الأوربيين .  فترجم الجسطي وكتب للزرقالي والفارابي . 

عاش ألفريد الساريشيلي في إسبانيا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر ، حيث قام بترجمة عدد من كتب الطب والفلسفة والموسيقى .

كان أندرياس أكولوث عالم لاهوت ومستشرق ، فقد نشر ترجمة للقرآن الكريم بأربع لغات أوربية وقد عاش في نهاية القرن السابع عشر .

أما الإنكليزي روبرت شستر فقد كان مستشرقاً عاش في القرن الثاني عشر .  وقد ترجم أعمال جابر بن حيان سنة 1144م [10] والخوارزمي .  وقد عمل في إسبانيا حيث تتوفر الكتب العربية في المدن المستعادة من حكم العرب .  وكان إهتمام روبرت منصب على الرياضيات والكيمياء .

 

جسور المعرفة الثلاث

هناك إجماع على أن جسور ثلاث تشكلت عبرت من خلالها المعارف والترجمات من العربية إلى اللاتينية ، وهي سوريا وصقلية والأندلس .

 

الأندلس

أسس المسلمون دولتهم في الأندلس على حب العلم والثقافة والآداب .  وقد ساعد على ذلك إقتصاد قوي بنوه بجهدهم وموارد البلاد الطبيعية .  ودفعهم إلى ذلك رغبة الأندلسيين جميعاً ، حكاماً ورعية ، أن لا يكونوا أقل من إخوانهم في المشرق .  فكان حكام الأندلس يحرصون على إقتناء الكتب التي تصدر في الشرق ، ويرسلون من يحضرها .  وكان كثيراً ما كان مبدعي الشرق يحضرون بأنفسهم حاملين معهم إبداعاتهم ، فينالوا الجوائز من أمراء الأندلس ، التي كانت كثيراً ما فاقت ما كان يُعطى في الشرق . 

كما كانوا يشجعون الكتابة وتأليف الشعر ونسخ المخطوطات .  وبنوا من أجل ذلك المكتبات الضخمة ، وقد إحتوت أعداداً كبيرة من الكتب ، ويكفي القول أن مكتبة الحكم الثاني إحتوت أربعمائة ألف كتاب ، علق على حواشي معظمها ، الأمر الذي يشير إلى أن الكتب كانت تقتنى لتقرأ.

وقد أبدع الأندلسيون في العلوم التطبيقية ، في الصناعة والتعدين والمعمار وبناء السفن .  وقد وصلت الكثير من التقنيات الصناعية إلى أوربا من الأندلس ، التي قد تكون منقولة من الشرق أو إبداع وإبتكار محلي . 

وقد تعدى التأثير الأندلسي في أوربا العلوم النظرية والتطبيقية ، بل تخطى ذلك إلى جوانب فكرية وثقافية .  فقد تأثر كثيرٌ من مفكري أوربا في العصور الوسطى بإبن رشد الأندلسي .  كما أن نمط الغناء المسمى الطوربادور tourbador متأثراً بالغناء الأندلسي ، إسماً ومضموناً .     

وقد كانت إبيريا ، بدولها المسيحية والإسلامية ، وحدة جغرافية واحدة .  وعلى الرغم من حياة العداء الدائم ، فإن التواصل بين الثقافتين كان قائماً .  فقد كان كثير من رعايا الأندلس من الإسبان الذين تحول بعضهم إلى الإسلام وبقي البعض الآخر على مسيحيته ، وكانوا يتقنون اللغتين العربية والإسبانية ، وكانوا يمارسون حرية التنقل عبر الحدود الكثيرة التغير.  كما كانت المدن الأندلسية المستعادة من قبل الإسبان كان يبقى بين سكانها من المسلمين ، الذين بقي بعضهم على دينه وتنصر البعض الآخر ، فكان هؤلاء جميعاً عوامل ساعدت على نقل المعارف والخبرات والمهارات بين عالمين ، كان أحدهما يرفض الآخر، فقد أغلقت أوربا أبوابها أمام الثقافة العربية لقرون طويلة .  

 

منارة طليطلة

وقد لعبت طليطلة دوراً هاماً في هذا الجهد .  وكان الإسبان قد إستولوا عليها في العام 1085م ، وكانت لها مكانتها الدينية والسياسية لدى الإسبان قبل الفتح العربي ، وقد جعلها المسلمون عاصمة لبعض الوقت ، ثم إنتقلوا إلى قرطبة ، ومع هذا إحتفظت طليطلة بثقلها ، كعاصمة إقليمية أندلسية ، وكمركز ديني مسيحي .   

وقد كانت طليطلة ، كأي مدينة أندلسية ، تضم في قصورها ومنازلها ومكتباتها ومدارسها آلاف الكتب بشتى التخصصات ، كما كان يعيش فيها الكثيرون ممن يتقنون اللغة العربية واللغة اللاتينية ويصلحون للعمل كمترجمين وكمعلمين للغة العربية .  وقد إحتضنت الكنيسة جهداً منظماً للترجمة .  وقد حدث هذا عندما أفاقت أوربا على الفجوة العلمية القائمة بينهم وبين جيرانهم على الساحل الآخر للمتوسط ، حيث نشأت لديها شهية تثير الإعجاب للمعرفة .  فبدأ العديد من طلاب العلم ، الذين كان معظمهم رجال دين ، يتقاطرون إلى طليطلة، وإلى مدن إسبانية أخرى بدرجةٍ أقل.  وكان أكثرهم منتدب من قبل أسقفيات وأبرشيات في بلاد أوربية مختلفة، وخاصةً إيطاليا وفرنسا وإنجلترة وألمانيا. 

كما دعمت الملكيات الإسبانية هذا الجهد ، كما دعمه النبلاء الإسبان .  وقد برز من بين الملوك الإسبان ملك قشتالة ألفونسو العاشر ، الذي كان يلقب بالحكيم  El Sabio ، والذي كان محباً للعلوم والفنون والآداب ، وكان يتقن اللغة العربية .  ولم يكن ذلك مستغرباً في ذلك العهد ، فقد كانت اللغة العربية ، اللغة الأكثر إنتشاراً في العالم .  وقد كان ألفونسو يدعم ما كان يسمى برنامج الترجمة  program of translation ، وكانت الكنائس والأديرة المحلية تستضيف طلاب العلم ، الذين مكث بعضهم عشرين سنة في بعثته .    

لقد ترجمت آلاف الكتب في القرنين الحادي عشر والثاني عشر ، تسربت إلى مختلف المدن الأوربية ، وتربى عليها أجيال من المبدعين الأوربيين ، الذين صنعوا لأوربا وللعالم حضارة عظيمة. 

 

سوريا

يشكل الإحتلال وسيلة قسرية للإحتكاك بين حضارتين ، فما إن ينتهي القتال حتى يدفع الفضول الطرفين إلى المبادرة في تحري أحوال بعضهما البعض .   فيبدأ تفاعل حضاري يعتمد في نجاعته وعمقه على عوامل عديده من بين بينها مدى تشجيع الحكام لهذا التفاعل ، ووجود قواسم مشتركة بين الثقافتين ، وكذلك وجود عمق حضاري لكل من الشعبين خارج منطقة التفاعل يشد كل منهما بعيداً عن الآخر .

وقد حدث في التاريخ حالات من الإنصهار الكامل بين شعبين ، مثل ما فعل العرب في سوريا ومصر والمغرب .  وكما حدث بين الإنكليز والسكسون والنورمان في إنجلترة .  ولم يكن الإحتلال اللاتيني لأجزاء من سوريا من بين الحالات التي حدث فيها تفاعل حضاري عميق .  فقد وقف في وجه ذلك حالة التعبئة العدائية العالية بين الطرفين ، فلم يحدث تحول ديني يذكر ،  كما لم تجري محاولات لإشراك المسلمين في شؤون الدولة .  ولكن مع مرور الزمن تأثر الكثير من الصليبيين بعادات وطباع أهل البلاد وعاداتهم .

 

أسامة بن منقذ وأصدقاؤه الصليبيين

كان أسامة بن منقذ ينتمي لأسرة عربية حكمت مدينة شيزر ، الواقعة على نهر العاصي بالقرب من حماة ، بين عامي 1081م و 1157م .  وكانت إهتماماته ، مثل أترابه من أبناء الأمراء الشباب ، تنحصر في أمرين ، وهما الصيد والقتال .  وكان الشيء نفسه ينطبق على أمثاله من الفرنج [11] .  ولذلك كون صداقات كثيرة مع فرسان صليبيين .  ويبدو أن حالة أسامة بن منقذ لم تكن شاذة ، فإن فرسان من الطرفين كانوا يتزاورون في فترات الهدنة التي كانت تعقد بين الطرفين . 

وقد ترك لنا أسامة بن منقذ كتاباً بعنوان " الإعتبار " تحدث فيه عن تجاربه .  فيبدو منها الفجوة الحضارية الهائلة التي كانت بين الطرفين ، لدرجة أن أسامة لم تعجبه من طباعهم إلا حبهم للفروسية [12] .  كما يظهر مدى تأثرهم بطباع جيرانهم من العرب ، بحيث كان يستطيع التمييز بين الصليبي القادم حديثاً ، والذي مضى عليه زمن في الشرق ، فقد كان الثاني أكثر تسامحاً ، بل تعدى التحول ذلك إلى تغير في الطباع مثل المأكل والملبس وإستخدموا خدم وطباخين وحرفيين من أبناء البلاد، وأدخلوا في غذائهم فواكه البلاد وخضارها ، وإستعملوا الزجاج على نوافذهم والفسيفساء على أرضياتهم والنوافير في ساحاتهم .  وأشركوا الراقصات في إحياء حفلاتهم ، والندابات المحترفات في أتراحهم ، وإستحموا في الحمامات ، واستعملوا الصابون ، وتناولوا السكر [13] .     

ولا شك أن هذا التغير في العادات والطباع جلب معه تغير في نمط المعيشة ، الذي دفع بالمبادرين من بين الفرنج إلى تعلم تقنيات إنتاج سلع مثل الصابون والسكر والزجاج ، ونقلها عاجلاً أم آجلاً إلى أوربا .

لقد وصف المؤرخ الإنكليزي أمراء الحملة الصليبية الأولى بإنهم إتصفوا بالغباء والصلف ، على تصرفاتهم في البلاط البيزنطي [14] ، وقد إستمر هذا الصلف ، وبالتأكيد فإن هذا الصلف كان له أثره في محدودية تأثر الأوربيين بحضارة الشرق المتفوقة . 

وهنا أود أن أشير إلى أن صلف أوربا حد من تاثرها وأخره لقرون ، حتى وقعت أقاليم إسلامية تحوي كنوز ثقافية تحت حكمهم ، حتى ظهر من بينهم من تقدم ونهل من هذه المعارف .  وقلما حدث أن عبر أحدهم الحدود ليتعلم العربية ويترجم كتب عنها .  بينما جازف الكثير من المترجمين ، وسافروا من بغداد إلى بلاد اليونان أملاً في الحصول على كتاب لكي يترجموه . 

على أن الصلف لم يبرأ منه مثقفي المسلمين ، فلم يحاول أسامة بن منقذ أن يتعلم اللاتينية ، ولم يتعلمها لسان الدين بن الخطيب أو إبن خلدون ، ولم يحاول تعلمها أحد من العرب والمسلمين ليترجم إبداعات أوربا عصر النهضة .  وبعد أن قابل المؤرخ سبط بن الجوزي الإمبراطور فريدريك الثاني ، قال عنه بصلف غير مبرر أنه لو كان عبداً لما بيع بأكثر مائتي درهم ، وكان فريدريك يسمى أعجوبة الدنيا ، فقد كان شاعراُ يتقن ثمانية لغات بينها العربية . 

 

مجمع نابلس

وهو مجمع ديني علماني عقد في سنة 1120 م في مدينة نابلس ، عندما كانت تحت الحكم الصليبي .  ودعا للإجتماع كل من بطريرك القدس وملكها .  وقد تم مناقشة قضايا دينية وعلمانية .  وقد تم تبني عدد من القوانين التي تنظم حياة المجتمع اللاتيني في الشرق .  وقد طبقت هذه القوانين طوال القرن الثاني عشر .  ويبدو أن القوانين مشتقة من قوانين بيزنطية .  وهي خطوة نحو بناء مجتمع يسوده القانون .  وعلى الرغم من أن هذه التجربة خاضها الصليبيون على أرض عربية ، إلا أن لا دخل للعرب وثقافتهم بهذه التجربة ، فلا يوجد أثر للشريعة الإسلامية في هذه القوانين ، فعقوبة الزنا تتراوح ما بين الخصي وجدع الأنوف .  ولكن عقوبة السرقة عقوبتها قطع يد أو رجل أو قلع عين ، شريطة أن تكون قيمة المسروقات تتجاوز بيزنت واحد .

ويذكر أن الدافع لعقد هذا المجمع هو إصابة القدس بموجات من الجراد مع تكاثر الفئران في المدينة ، وفُسر ذلك على أنه غضب من الله لتزايد المعاصي .   

أسيزات القدس

وقد بقيت قوانين مجمع نابلس موضوعة قيد التطبيق ، حتى ظهرت " أسيزات القدس " ، والكلمة فرنسية تعني مجازاً مجوعة قوانين .  وهذه القوانين التي نظمت حياة الصليبيين في سوريا وقبرص لقرون طويلة ، ظهرت في شكلها النهائي بعد إستعادة القدس من قبل صلاح الدين .  وهي تشكل قانون إقطاعي نموذجي ، مختلف عن القوانين التي وضعت في فرنسا بعد ذلك بقليل بأنها متحررة من مؤثرات الملكيات ، التي سعت دائماً للحد من صلاحيات وسلطات الأمراء الإقطاعيين .

ويتكون القانون من قسمين ؛ قسم يخص كبار الإقطاعيين ، بينما يخص القسم الثاني بقية المواطنين .

ويبدو أن هذه القوانين ، أو العقلية التي وقفت ورائها ، والتي خلقت علاقات متوازنة بين الملوك والأمراء ، وضعت تقاليد سياسية ، كان ملوك القدس محدودي السلطات إلى حدٍ كبير.  فقد كان       " المجلس " court ، يحد من سلطات الملك على الدوام .  بينما كان ملوك أوربا يلجأون إلى الحرب إذا ما عارض الأمراء سياساتهم ، وكان أمراء الشرق لا يعارضون ملوكهم ، فهل ولدت الديمقراطية الأوربية على أرض عربية ؟.  وهل ساهمت دولة القانون التي أقامها الصليبيون في نهضة أوربا ؟.   

 

 

صقلية

لقد تشابهت التجربة الصقلية مع التجربة الأندلسية إلى حدٍ كبير .  وكان هناك فوارق تاريخية وجغرافية عديدة ، فالأندلس أكبر مساحةً وأكثر سكاناً وأغنى موارداً ، كما أن الدولة الإسلامية لم تشمل كافة أراضيها .  بينما وقعت صقلية بكاملها تحت الحكم الإسلامي ، بل تبع لها جزءاً من جنوب إيطاليا .  ولم تتعرض لعملية إستعادة منظمة ، بل تم فقدانها لطرف قادم من شمال غرب فرنسا .  وبعد زوال الحكم الإسلامي ، يتم طرد المسلمين ، بل كان لهم دور فكري وثقافي وإقتصادي وعسكري وسياسي .  ونبغ من بين المسلمين علماء وأدباء وشعراء في البلاط النورماني ، الذين حكموا صقلية وجنوب إيطاليا بعد المسلمين .

 

النورمان ، الحالة الخاصة

لم ينتهي الوجود الثقافي والسياسي وحتى العسكري للمسلمين في جزيرة صقلية بسقوطها بيد النورمان .  فقد إستمر هذا إلى ما بعد إنتهاء حكم النورمان على الجزيرة ، ويعود ذلك إلى أربعة أسباب ؛ الأول تسامح حكام النورمان ، وهي حالة أوربية نادرة. والثاني أن جزءاً من مسلمي صقلية حارب مع النورمان ، كما أسلفنا [15] ، والثالث كون المسلمين شكلوا غالبية السكان في معظم أقاليم الجزيرة والرابع أن سكان المدن فتحوا مدنهم بناء على إتفاقيات ضمنت حقوقهم [16] .  

كما أن إمارة صقلية عاش بها لاتين وبيزنطيين جنباً إلى جنب ، وربما كانت المكان الوحيد في العالم الذي عاش فيه مسلمون وأرثودوكس وكاثوليك بإنسجام ، سواء تحت حكم المسلمين أو النورمان أو الأباطرة الألمان.

وقد أنجبت صقلية الكثير من المبدعين، من شعراء وفقهاء وكتاب، كما تأسس فيها مدارس ومكتبات.  وقد هاجر بعضهم بعد إستيلاء النورمان على الجزيرة ، وبقي البعض الآخر ، كما إستمر المجتمع الإسلامي بإنجاب المبدعين ، فقد نبغ الجغراقي المعروف الإدريسي في عهد روجر الثاني . 

وقد كانت التأثيرات العربية في الجانب الثقافي والفني والشعري واضحة .    وقد نشأ في بلاط فريدريك الثاني نوع من الشعر تأثر كثيراً بالشعر العربي إستخدم لغة إيطالية مختلفة عن التوسكانية ( شمال إيطاليا ) ومتأثرة باللغة العربية إلى حد بعيد .  وكانت المدرسة الشعرية الصقلية معروفة لدى شعراء العصور الوسطى مثل دانتي .   

 

 

جسور أخرى محتملة

وكان من الممكن أن يكون هناك جسور أخرى ، ملكت المؤهلات للقيام بدور الموصل لمعارف البشر بين الشرق والغرب ، ولكنها لم تفعل .

 

القسطنطينية

كان من الممكن للقسطنطينية أن تلعب دوراً كبيراً في النهضة الأوربية .  فقد كانت مؤهلة تاريخياً لذلك .  فالمدينة مقامة على أراضي إغريقية ، حيث المنهل الذي نهل منه العلماء العرب والمسلمون ، فقاموا بترجمة أعمال كثيرة في القرنين التاسع والعاشر في مختلف التخصصات .  كما أنها كانت عاصمة لدولة غنية الموارد ، كما كانت تسود في أوساطها تقاليد تقوم على الميل للثقافة والتنور والتحضر . 

وعلى الرغم من حالة الحرب الدائمة بين بيزنطة والعرب ، فإن الحضارتين كانتا تملكان مقومات التواصل فيما بينهما ، من خلال التجارة ومن خلال السفارات ، والأهم من ذلك من خلال القيادات الدينية للمسيحيين العرب ، الذين كانوا يسافرون إلى القسطنطينية لحضور المجامع الدينية ، كما كانوا يتراسلون مع بطريركية القسطنطينية . 

وقد كان لدى القسطنطينية الفرصة لأن تلعب الدور الذي لعبته طليطلة في القرنين الحادي عشر والثاني عشر ، بأن تقدم لأوربا الكتب الإغريقية بنصوصها الأصلية الإغريقية قبل وصولها للعرب ، أو أن تقدمها بترجماتها العربية قبل وصولها من خلال طليطلة بقرنين على الأقل ، كما كان بإمكانها تقديم الكتب العربية المبتكرة التي ظهرت تباعاً عبر القرون التالية .   

ولكنها لم تفعل ، فعلى ما يبدو أنها لم تكن مهيئة لذلك ، فقد كانت حضارتها سطحية ، ورثت عن روما كبرها ، فقد كانت تنظر إلى العرب والأوربيين على أنهم أقل قدراً .  ولم يذكر التاريخ أن اللاتين إستفادوا من حكمهم للقسطنطينية لمدة زادت قليلاً عن نصف قرن ، بترجمة كتب إغريقية ، يُفترض أن تحتويها مكتبات المدينة .  كما لم يسجل التاريخ ظهور أفراد إضطلعوا بمهمة الترجمة والنقل .

 

الجاليات اليهودية

لقد عاشت جاليات يهودية في مدن حوض البحر المتوسط منذ عهود قديمة.  وكان الكثير من اليهود يعملون بالتجارة، ويسافرون من أجل هذه الغاية، ويتعلمون اللغات الضرورية لذلك، ويستعينون من أجل ذلك بإخوانهم بالدين المنتشرين في معظم المدن.  وقد كان بين حاخاماتهم مراسلات.  وقد تفاجأ إبن بطوطة عندما قابل شخص يهودي في القسطنطينية قدم براً من الأندلس. 

فكان بذلك اليهود مهيئين للقيام بأعمال الترجمة والنقل بين الأمم والحضارات، لمعرفتهم باللغات المختلفة وقدرتهم على السفر.  ولكنهم لم يفعلوا.

 

قيام الجمهوريات الإيطالية

مع تعاظم دور المدن في أوربا وتزايد النشاط التجاري ، فإتسعت المدن وجذبت المزيد من السكان وتراكمت بها الثروات وزاد الإعتماد على النقد ، كما أصبحت مراكز سياسية مهمة .  وقد شجع ذلك الملوك ، الذين وجدوا بدور المتعاظم وسيلة لخلق توازن مع إقطاعيي الريف .

وفي إيطاليا ، حيث السلطة المركزية ضعيفة ، ظهرت مدن نعمت بإستقلال نسبي ، وحكمها دوقات ومجالس منتخبين.  وشكلت جيوش وأساطيل، وأصبح لبعضها، على الطريقة الفينيقية، مستعمرات تستخدمها كمراكز تجارية على سواحل المتوسط .

 

q       جنوة

تقع مدينة جنوة على البحر المتوسط في شمال غرب إيطاليا .  وقد برزت في نهاية القرن الحادي عشر ، ككيان سياسي يتبع إسمياً إلى الإمبراطورية الرومانية المقدسة ، حيث يحكمها أسقف إسمياً ، أما السلطة الفعلية فقد كانت بيد مجموعة من القناصل المنتخبين سنوياً من قبل مجلس شعبي .  وكان نشاط المدينة الأساسي هو التجارة ، وتحديداً التجارة البحرية .  حيث برع إهلها ببناء السفن وبإستخدامها .  فجاب الأسطول الجنوي عباب البحر المتوسط ، وبرع الجنويون في تخطي الحواجز السياسية والثقافية والدينية ، فأقاموا علاقات تجارية قوية مع الدول الإسلامية المعاصرة .  كما تاجروا مع دول أوربا الداخلية ، مما نجم عنه ثراء المدينة وتزايد نفوذها .  الأمر الذي أوجب وجود أسطول مقاتل لحماية الفن التجارية من القراصنة ومن أساطيل الدول المنافسة ، وكذلك لإيجاد قواعد تجارية منتشرة حيثما أمكن على سواحل المتوسط فسيطرت بالقوة على عدد من المدن الساحلية وبعض الجزر مثل كورسيكا وسردينيا ، وهكذا ، وعلى النمط الفينيقي ، أصبحت جمهورية جنوة دولة يسعى للتحالف معها المتحاربون .  فهي يمكن أن تشارك في القتال الفعلي ، ويمكن أن تساعد في نقل الجنود عبر البحار ، ويمكن أن تساعد بتقديم الواد الأولية مثل الخشب ، كما يمكن أن تلعب دور الممول .

تحالفت جنوة مع الدولة البيزنطية مما أعطى المجال لإقامة مستعمرات في سواحل البحر الأسود الشمالية .

وكان التنافس محتدم بين جنوة وبيقية المدن الإيطالية ، بيزا والبندقية ، حيث وصل التنافس إلى الإقتتال ، الذي وصل ذروته بإنتصار جنوة على بيزا سنة 1284 وعلى البندقية سنة 1298 .  ومع إنتشار الطاعون في منتصف القرن الرابع عشر ، التي أتهمت السفن الجنوية بنقله من القرم ، تراجع إقتصاد أوربا وإنخفض عدد السكان ، خسرت جنوة معظم ممتلكاتها وتراجعت تجارتها .  ثم غيرت نظام الحكم فيها فتم الإتفاق على تعيين دوق Doge لرئاسة الحكومة .

وفي القرن السادس عشر أصبحت جنوة تتبع التاج الإسباني ، وفي هذه الفترة أثرت جنوة وجذبت حالة الرخاء الكثير من الفنانين .  

q       بيزا

تتمتع مدينة بيزا بموقع حصين لوجود عدد من الأنهار التي سهلت عملية الدفاع عن المدينة عبر التاريخ ، ولذلك ام تتراجع بيزا كما تراجعت المدن الإيطالية الشمالية الأخرى تحت وقع الهجمات المتتالية للشعوب الجرمانية وغيرها .  وقعت بيزا في يد الومبارد سلمياً ، حيث تبوأت موقعاً قيادياً في التجارة البحرية غطى معظم غرب المتوسط .  وبعد هزيمة اللومبارد على يدي شارلمان ، أصبحت بيزا جزء من دوقية لوكا .  وفي العام 930 أصبحت عاصمة كونتية ، مع بقاء لوكا عاصمة الدوقية .  ومع تزايد الخطر الإسلامي ، إضطرت بيزا لتقوية أسطولها ، وفي القرن العاشر تمردت على لوكا .  ثم أصبحت أحد أهم القوى في المنطقة ، فهاجمت شمال إفريقيا في العام 828 ، وساعدوا أوتو الأول ضد بيزنطة في العام 870 ، وفي العام 871 ساهمت في الدفاع عن ساليرنو ضد المسلمين . 

وفي القرن الحادي عشر كانت تعد واحدة من الجمهوريات التجارية الأربعة في شمال إيطاليا ، التي تملك أسطولين تجاري وحربي ، حيث كانت في صراع مستمر مع القوى الإسلامية التي تسيطر على سردينيا وكورسيكا .  وفي العام 1017 تمكن تحالف من جنوة وبيزا من الإستيلاء على سردينيا بعد هزيمة المسلمين بقيادة أميرهم مجاهد .  ولكن سرعان ما إنقلبت بيزا على حليفتها جنوة وأخرجتها من الجزيرة ، فإستحكم العداء بينهما وإستمر لقرون طويلة .  وكانت سفن بيزا لا تتوقف عن الغارات على المدن الإيطالية والصقلية ومدن شمال إفريقيا طوال هذه الفترة ، ثم إستطاعوا السيطرة على كورسيكا في العام 1052 ، مما أثار حفيظة الجنويين .  وقع الصدام الأول مع جنوة في العام 1060 فإنتصرت عليها .  وفي العام 1063 تحالفوا مع روجر الأول ملك النورمان وإنتزعوا باليرمو من المسلمين ، وقد إستخدموا الذهب الذي غنموه في باليرمو من المسلمين في بناء كاتدرائية بيزا ومباني أخرى. 

لقد عزز الإنتصار على جنوة مكانة بيزا كقوة بحرية ففرضت قوانينها على البحار بتأييد من البابا ، كما تعزز إستقلالها السياسي ورفع البابا بيزا إلى اسقفية .

ساهمت بيزا في الحملة الصليبية الأولى بأسطول من 120 سفينة .  وقد قاد البيازنة أسقفهم ، الذي اصبح بطريرك القدس ، وقد كانت هذه أقل جوائزهم ، فقد بموا مراكز تجارية في جميع المدن الساحلية السورية ، بالإضافة إلى مراكزهم في القسطنطينية والقاهرة والإسكندرية ، التي لم تتأثر بالحالة العدائية مع أوربا .  لقد كان التجار البيازنة معفون من الضرائب مقابل مشاركتهم بالدفاع .  فأصبحت بذلك متفوقة على القوى البحرية جميعاُ  .  وفي العام 1113م نظم البابا تحالفاً مع برشلونة وبروفانس للسيطرة على جزر الباليار ، حيث إستطاعوا أسر أميرها وزوجته ، ولكن المرابطين إستطاعوا إستعادة الجزيرة بعد قليل ، ولكن الغنائم التي حصل البيازنة مكنتهم من إكمال مشاريعهم المعمارية الكبيرة .

أستمرت المنافسة مع جنوة ، ومع إستمرار المشاركة حروب الأندلس ، وكانت المنافسة في كل شيء حتى في العداء للمسلمين وعلى التجارة في البر الأوربي والقواعد التجارية حول المتوسط .  ووقعت الحرب بينهما في العام 1119 وإستمرت إلى 1133 وإتخذت شكل غارات سريعة ، ولم ترتقي إلى مواجهة مكشوفة .  وفي قمة مجدها تمكنت بيزا في وقت لاحق من القرن الثاني عشر من الحصول على تصريح بالتجارة الحرة في جميع أوربا وعلى مراكز تجارية في العديد من الموانئ . 

إستمرت بيزا كلاعب أساسي في تحالفات وحروب جنوب أوربا ، إلى أن جاءت نهايتها كقوة بحرية عندما إنهزم أسطولها أمام أسطول جنوة رغم تفوقه العددي سنة 1284 .  وتدريجياً فقدت ميناءها الذي إمتلأ بالطمي ،  ففقدت المدينة قر بها من البحر . 

وفي عصر النهضة ، وعلى الرغم من تراجعها المستمر ، قدمت بيزا أحد أهم رجال النهضة الأوربية وهو جاليليو جاليلي . 

     

q       أمالفي

ظهرت أمالفي كقوة تجارية بحرية في مرحلة مبكرة نسبياً .  فقد أقامت علاقات تجارية مع مدن سورية ومصر ، حيث كانت تبيع الخشب والعبيد وتشتري الحبوب والمنتجات النسيجية الشرقية منذ القرن الثامن .  ولكن في سنة 848 تحالفت مع البابوية ضد المسلمين .

دخلت أمالفي في منافسة مع بيزا وجنوة وقد كانت أمالفي جمهورية مستقلة منذ منتصف القرن السابع وحتى 1075 .  ففي العام 1073 إستولت عليها كونتية أبوليا النورمانية ، وعلى الرغم من عدم الإستقلالية الممنوحة من قبل النورمان إستمرت أمالفي في التراجع ، وتم إجتياحها في القرن الثاني عشر ونهبها ، وتدريجياً فقد ميناءها أهميته .  ولكن في عصر النهضة إشتهرت أمالفي بمدارسها الحقوقية والرياضية ، وكان فلافيو جيويو مدعي إختراع البوصلة من أبناء هذه المدينة .

 

q       البندقية

تقع البندقية على بحر الأدياتيك ، وقد تأسست من قبل مهاجرين رومان هربوا من الغزو القوطي .  حيث صمدت أمام الغزو الهوني واللومباردي بعد ذلك .  وأسمها هو فينيس ، أما البندقية ، فهو الإسم العربي المحرف عن كلمة فون دوشيا ، أي الدوقية الجديدة . 

إبتداء من القرن التاسع تحولت البندقية إلى مدينة دولة ، جمهورية يحكمها مجلس ودوق منتخب .  وساعد موقعها على رأس البحر الأدرياتيكي على تحولها إلى قوة بحرية كبيرة ، تجارياً وعسكرياً . 

وقد كانت البندقية ، لبعض الوقت ، ضمن منطقة تعود إلى الإمبراطورية البيزنطية ، وهذا جعلها من الناحية المذهبية تتأرجح بين الأرثودكسية والكاثولوكية ، كما كانت مدينة غير متعصبة ومتسامحة .  فلم تعرف محاربة الهرطقة ، بحيث لم تسجل حالة إعدام واحدة في أوربا محاكم التفتيش .

سيطرت البندقية على السواحل الشرقية لبحر الأدرياتيك ، كما سيطرت على معظم جزر البحر الإيجي وجزيرة كريت  .  كما توسعت البندقية إلى الداخل فسيطرت على بعض مدن الداخل الإيطالي مثل بريجامو وفيرونا وبريسيا وتحكمت بممرات الألب التي تضمن مرور القوافل إلى الشمال .

شاركت البندقية في الحروب الصليبية ، مثلما مارست التجارة مع مصر والشام ، قبل وأثناء وبعد الحروب الصليبية .  وقد كانت مشاركتها تقتصر أحياناً على نقل الجنود ، ولكنها كانت أيضاً تشارك في أرسال مقاتلين مثلما فعلت في الحملة الرابعة ، التي إستولى فيها الصليبيون على القسطنطينية .  وقد خرجت البندقية من هذه الحرب قوة عظمى . لقد جعلت تجارة البندقية مع العالم الإسلامي والدولة البيزنطية أهلها من أغنى شعوب أوربا ، فتنافسوا فيما بينهم في بناء القصور وإحتضان الفنانين ودعمهم .

فقدت البندقية أهميتها مع نهاية عهد النهضة ، وفي هذه الأثناء مارس أهلها الصناعة فإشتهرت كمصدر للأدوات الزراعية . 

 

q       دور الكنيسة

لقد تحدثنا في فصل آخر عن الإصلاحات التي جرت في الكنيسة ، وقد نجم عن ذلك تحولات ساهمت في النهضة .  فالكنيسة وحدت أوربا ، وحرصت على المحافظة على هذه الوحدة ، كما أدركت الكنيسة حجم التحديات التي واجهت أوربا في ذلك الزمن .  وقد أدرك قادة الكنيسة أهمية العلم .  وكان التعليم مرتبط بالأديرة والكنائس . وكان للكنيسة دور في فتح عدد من الجامعات في مدن أوربية مختلفة .  ثم كان لها الدور الريادي في حركة الترجمة .  فتقاطر رجال دين أوربيون وتجشموا متاعب السفر إلى طليطلة وغيرها لترجمة كتب عربية ، بعضها ترجمات لكتب إغريقية حرق آباء مسيحيون آخرون أصولها الإغريقية قبل ستة قرون .

 

حركات الهرطقة

ظهرت في فترة الحروب الصليبية حركات خروج عن الديانة المسيحية .  وقد تركزت في أهم معاقلها ، فرنسا وإيطاليا .  فقد ظهر تاجر إسمه بيتر والدو في جنوب فرنسا ، تخلى عن جميع ثروته للفقراء ، وأخذ ينتقد ممارسات رجال الدين فتبعه كثير من الناس .

ثم ظهرت دعوة إلى دين مختلف تماماً ، متأثراً بالديانة المانوية، فإعتنقها الكثيرون في جنوب فرنسا وبعض مدن شمال إيطاليا .  وقد إضطر البابا إلى تنظيم حملة صليبية ضخمة ضد أتباع هذا الدين ، حيث ذُبح العشرات من الألوف ، ولم يقضى عليهم إلا بإستخدام محاكم التفتيش فيما بعد .  وهذه الحركات من إفرازات المرحلة المفعمة بالحيوية والرغبة في التجديد .

 

العلوم

  مع تدفق الكتب المترجمة إلى اللاتينية ، لغة الكنيسة والتعليم في أوربا ، بدأ بالظهور عددٌ من رجال العلم المستنيرين ، الذين تعلموا وقادوا حركة تعليم محمومة أدت إلى تغير شكل أوربا .  ومن بين هؤلاء روجربيكون ، الذي عاش في القرن الثالث عشر في إنجلترة .  وقد كان فيلسوفاً يؤمن بالبحث العلمي ، وتأثر بكتابات العرب .  وقد درس في اكسفورد ، ثم درَّس فيها ، حيث كان يحاضر عن أرسطو .  كما درس في جامعة باريس .  وقد ترك أعمالاً في الرياضيات والكيمياء والفلك والفيزياء والبصريات ، وقد قدم أبحاث أدت إلى صناعة الميكروسكوب والتليسكوب فيما بعد .

 أوجد جروسيتيستي مدرسة أوكسفورد للفرنسيسكان ، كراهب في بداية القرن الثالث عشر .  وقد كان يؤمن بالبحث العلمي ، وقد ترك أعمالاً في الرياضيات والفيزياء والفلك .  وقد متحمساً للإصلاح.

عاش بيتر أوليفي في القرن الثالث عشر في فرنسا . وقد كان عالم لاهوت فرانسيسكاني وله كتابات في اللاهوت والفلسفة ، وقد أحرقت كتبه بعد إتهامه بالقرطقة .  وله ترجمات لكتب إبن سينا في الفيزياء [17] .

و جون الإشبيلي إسباني عاش في القرن الثالث عشر .  وقد ترجم إلى اللاتينية كتباً في الرياضيات والطب ، كما ترجم كتاباً في الفلسفة لكاتب عربي هو كوستا بن لوكا ، أو قوسطا بن لوقا ، عاش في القرن التاسع ، وهو من مواليد بعلبك ، وكان واحداً من آلاف المسيحيين الذين صنعوا الحضارة العربية والإسلامية  .

 

q       التجارة

بدأت التجارة في التحسن مع ظهور الإمارات الصليبية في بلاد الشام .  وفي هذا الوقت أيضاً بزغت الجمهوريات الإيطالية ، التي برعت في التجارة ,  كما تم إنشاء خطوط تجارية تخترق الألب إلى مدن الراين ، مع تزايد عدد السكان وزيادة الإنتاج الزراعي .

ومع الإستقرار في شرق أوربا نشأت خطوط قوافل قادمة من آسيا وتنتهي في مدن وسط أوربا مثل براغ .

وقد عزز تحول الفايكنج من الغزو إلى التجارة النشاط التجاري على طول حوض الفولجا ، وحول السواحل الغربية لأوربا ، فكانت السفن الأندلسية والإسبانية تبحر إلى الموانئ الدنمركية محملة بمنتجات إيبيريا وشمال إفريقيا .  كما نشطت تجارة الفرو من شمال أوربا إلى شرق المتوسط مروراً بالقفقاس ، أو البحر الأسود .

 

q       الصناعة والتكنولوجيا

ظهرت حركة إرتقاء وتطوير لأدوات الإنتاج في أوربا في هذه الفترة ، مع تزايد السكان وتنشيط التجارة والإستقرار النسبي للأوضاع السياسية في القارة . 

فظهرت أول طاحونة هوائية في مدينة يوركشاير في إنجلترة بحدود العام 1185م ، حيث إنتشرت من هناك إلى أنحاء مختلفة في أوربا .

ووصلت صناعة الورق إلى أوربا ، حيث أُقيم أول مصنع للورق في إيطاليا سنة 1340م .  ثم إنتشر إلى بلدان شمال الألب خلال العقود التالية .

وصلت البوصلة إلى أوربا من العرب في القرن الثالث عشر على نطاق ضيق ، وعلى الرغم من إدعاء شخص من أمالفي إختراعها في القرن الرابع عشر ، إلا أنه من المعروف أن العرب عرفوا البوصلة قبل ذلك بقرون .

وتم إختراع النظارات الطبية في العام 1280 في إيطاليا .

ودخل الأسطرلاب في الملاحة الأوربية في هذه الفترة ، من خلال الأندلس ، وهو إختراع إغريقي .

ودخلت الأرقام العربية إلى أوربا سنة 1202 لتحل محل الأرقام الرومانية عديمة المرونة .

وطرأ تحول على أجهزة التوجيه الملاحية في السفن .

      

q       البناء

لقد ظهر في هذه الفترة نمط البناء القوطي ، الذي يعتمد على الأقواس المدببة ، ويركز على البناء العمودي ، ويتضمن نوافذ عمودية طويلة ، والأعمدة الرفيعة المتلاصقة والمنارات العالية المدببة .  كما يستخدم الزجاج الملون بكثرة ، بحيث يسمح بإضاءة أكثر مما يسمح البناء الروماني .

وقد بدأ في القرن الحادي عشر ، وظهر بشكل خاص في المباني الدينية ، الكاتدرائيات خاصة .

وهذه التسمية ظهرت فيما بعد كنوع من اللإستهزاء من قبل فناني ومعماريي عصر النهضة ، الذين تبنوا نمطاً جديداً .

 

q       الجامعات

لقد عرفت كل من الصين والهند والقاهرة وفاس الجامعات بمفهومها الحديث ، كما عرف العالم معاهد كثيرة في أثينا والقسطنطينية وجنديسابور وبيت الحكمة في بغداد ، كما إنتشرت معاهد كثيرة في القيروان وقرطبة ومالي وغيرها .  أما في غرب أوربا فقد تأسست أول جامعة في ساليرنو في القرن التاسع ، ثم جامعة بولونيا في إيطاليا سنة 1088 ، ثم جامعة باريس سنة 1100 ، وقد كانت هذه الجامعات وغيرها مثل أوكسفورد تأسست بتوجيهات بابوية ، وترتبط بصورةٍ أو بأخرى بالتعليم الديري .  ومع نهاية العصور الوسطى أصبحت الجامعات أكثر علمانية ، وإنتشرت إنتشاراً واسعاً وأضافت مواضيع جديدة ضمن مناهجها .  وفي القرن الثامن عشر ، كانت معظم الجامعات الأوربية بحثية وتنشر أبحاثها في دوريات مختصة .

 

q       النحت والرسم

عرفت أوربا النحت والرسم منذ الإغريق والرومان ، الذين تركوا أجمل ما ترك الأقدمون في العالم أجمع .  وبعد إنتشار المسيحية ، كاد أن يحرم من قبل أعداء الإيقونية ، ولكن التيار المؤيد تغلب في الغرب أولاً ، ثم حقق بعض المكتسبات في بيزنطة . فإرتبط هذا الفن بتزيين الكنائس والكاتدرائيات والأديرة .  بل إن وجود التماثيل والمنحوتات والصور أمر ضروري في كل كنيسة .

وفي القرن الحادي عشر إنتعشت حركة الرسامين والنحاتين ، وظهر من بينهم المبدعون الذين تخلدت أعمالهم في كاتدرائيات أوربا الكبيرة .

 

q       الغناء

يهتم العالم المسيحي بالغناء لأنه يدخل بالترانيم الكنسية والأناشيد الدينية ، ولذلك كان فن الغناء مرتبط بالكنيسة كأي نشاط آخر في أوربا ذلك الزمان ، كالتعليم والطبابة وغيرهما .  ولكن نشأ في القرن الحادي عشر في جنوب فرنسا جماعة التروبادور ، وهم شعراء غنائيين كتبوا أغانيهم في الغزل ومواضيع أخرى .  وقد كانت هذه الحركة مستقلة عن الكنيسة .  وقد تأثر بهذه الحركة شعراء في شمال فرنسا وشمال إيطاليا والمانيا وغيرها ، تحت مسميات أخرى .

 

q       الموسيقى

ظهر في القرن الحادي عشر موسيقي إسمه جايدو الأريزي ، الذي قام بوضع النوتة الموسيقية .  وقد ساعد ذلك المغنين على تذكر ألحان الأغاني ، الذي كان معظمها كنسي في ذلك الوقت .  وكانت هناك محاولات عربية سابقة لكتابة الموسيقى ، ولكن لم يعرف عن أيٍ من الذين قاموا بهذه المحاولات توصله للغة تدوين موسيقية .  ولكن تم نقل عدد من الآلات الموسيقية العربية إلى الغرب ، مثل العود والقيثارة التي أُخذ عنها الجيتار ، والتشابه في الإسم واضح ، وكلاهما مشتق من كلمة هندية " إك تارا " وتعنى " الوتر الواحد ، وهي آلة موسيقية هندية لا تزال مستخدمة وتحمل الإسم نفسه .




[1]  شمس العرب تشرق على الغرب .

[2]  الموسوعة الكاثوليكية .

[3]  تحولت هذه الطائفة عن المذهب النسطوري في القرن التاسع عشر نتيجةً لجهود تبشيرية غربية.

[4]  حضارة أوربا العصور الوسطى ، موريس كين .

[5]  العرب وأوربا ، لويس يونج .

[6]  تاريخ أوربا العصور الوسطى ، العريني .

[7]  العرب وأوربا ، لويس يونج .

[8]  دراسات في تاريخ صقلية الإسلامية ، د أمين توفيق الطيبي.

[9]  تاريخ العلوم عند العرب والمسلمين ، قدري طوقان .

[10]  الجامع في تاريخ العلوم عند العرب .

[11]  الحروب الصليبية ، آر سي سميل .

[12]  صلاح الدين الأيوبي ، قدري قلعجي ، نقلاً عن الإعتبار .

[13]  الحروب الصليبية ، آر سي سميل .

[14]   The Byzantine State , C. Oman.

[15]  نحن وأوربا ج 2.

[16]  دراسات في تاريخ صقلية الإسلامية ، د امين توفيق الطيبي.

[17]  الجامع في تاريخ العلوم عند العرب .


 
 

 


تعليقات

لا يوجد تعليقات

الإسم 
البريد الإليكتروني (ليس للنشر)
التعليق
هل توافق على الانضمام لمجموعتنا البريدية؟
  أرسل

 

Counter