كتاب " نحن وأوربا " - الجزء الثالث - الفصل السابع عشر - حروب العثمانيين.
 
 



حروب العثمانيين

 

لم ينتهي الوجود السياسي والعسكري للدولة البيزنطية بسقوط عاصمتها ، حيث بقيت ولاية طرابزون مستقلة يحكمها حاكم بيزنطي ، حيث بقيت كذلك لغاية 1461 م.

وبعد الإنتهاء من فتح القسطنطينية ، قام العثمانيون بمواصلة حركة الفتوحات التي بدأها آبائهم ، ففتحوا بقية البلقان وصربيا والبوسنة والهرسك وأثينا وألمورا ومعظم الجزر اليونانية .  ولكن ألبانيا إستطاعت الصمود أمام الجيوش العثمانية ، حيث عُقدت معها هدنة .  وفتحت مدينة ترانت الإيطالية البحرية الجنوبية، وهي المدينة التي وقعت تحت حكم العرب في القرن التاسع.    

المماليك البرجية

ويسمون كذلك لتمييزهم عن المماليك البحرية التي حكمت في الشطر الأول من العهد المملوكي، ويسمون أيضاً بالمماليك الجركسية ، أو الشركسية لإنحدارهم من أصول شركسية، والشركس هم أحد شعوب شمال القفقاس.  وكان المماليك قبلهم من أصول تركية وشعوب أخرى من أواسط آسيا.  وكان السلطان قلاوون أول أن أكثر من هؤلاء المماليك ، الذين جلبهم من أسواق الرقيق في مدينة كفا في شبه جزيرة القرم ، وأسكنهم في أبراج القلعة ، حيث يسكن مع أسرته، فسُموا المماليك البرجية.

وقد أدرك قلاوون أن بقاء السلطان المملوكي في الحكم مرهون بعدد المماليك الذين يملكهم ، حيث لا عشيرة ولا جماعة عقائدية تسانده.  فأخذ يشتري المماليك ، وقد إختار هذا العنصر الجديد لكي يكونوا مختلفين عن بقية المماليك، كما أن أعداداً كبيرة كانت متوفرة نتيجةً للحروب التي شنها عليهم الخوارزميون والمغول.  لذلك كان العرض الكبير يجعل السعر قليل بحيث يصبح شراء أعداد كبيرة ممكناً.  وقد بدأ الشراء بأعداد كبيرة في العام 1282م.  فأصبح لدى قلاوون ثلاثة آلاف وسبعمائة مملوك.  وقد أضاف الأشرف خليل بن قلاوون ألفين من المماليك الشركسية خلال فترة حكمه القصيرة التي تلت حكم أبيه.

وهكذا أضحى المماليك البرجية قوة متماسكة كثيرة العدد وحسنة التدريب، فأصبحوا جزءاً من الحياة السياسية لدولة المماليك [1] .  الذين لم يعودوا محصورين في أبراج القلعة، لكثرة أعدادهم.  وقد بدأ ذلك في زمن السلطان الأشرف.  فخرجوا إلى الحياة العامة ومارسوا وظائف كانت في السابق يقوم بها المماليك التركية، فبدأ التنافس فيما بين الفريقين.

وقد جاء الإختبار الأول لقوتهم عندما قُتل السلطان الأشرف من قبل زعيم المماليك التركية بيدرا.  فلم تهدأ ثائرتهم إلا عندما قام أحدهم بقتل بيدرا، قاتل الأشرف، كما قتلوا أمراء آخرين شاركوا في المؤامرة.  وسجلوا بذلك إنتصارهم السياسي الأول، وجاء الإنتصار الثاني بعد تعيين السلطان الناصر محمد، الذي كان صغير السن، فوقع نزاع بين وزراءه، فكان الإنتصار النهائي للحزب الذي أيده المماليك البرجية.

إستمر المماليك البحرية بالعمل على الحد من سلطة المماليك البرجية بتشتيتهم وإبعادهم وحتى قتل البعض، ولكن جميع هذه الإجراءات لم تضعف المماليك البرجية وذلك أنهم إستفادوا من التطورات السياسية في المنطقة المتمثلة بالصراع مع الصليبيين والمغول، كما أنهم إستفادوا من الصراعات الداخلية في أوساط المماليك البحرية أنفسهم.  ومع مرور الزمن إكتسبوا الخبرة وترقى بعضهم إلى قادة ونواب  وكثر عددهم .  وعندما تنازل السلطان الناصر عن العرش سنة 1309م، تولى أحدهم السلطنة، وهو بيبرس الجاشنكير، وهو أول مملوك شركسي يعتلي العرش .  ولكنه لم يستطع الصمود حيث تمكن السلطان الناصر من إستعادة عرشه وقتله، الأمر الذي أدى إلى تبني الناصر سياسة معادية للشراكسة، وعمل على الحد من نفوذهم والتقليل من عددهم .

وبعد وفاة السلطان الناصر ، إستمرت سياسة التضييق عليهم ، ولكن خلفاء الناصر كانوا جميعاً ضعافاً ، بحيث أن الشراكسة تمكنوا من الإنقلاب على شعبان بن الناصر سنة 1345م وتعيين أخيه المظفر حاجي.  وأصبح الأمير غرلو الشركسي نائباً للسلطنة، فعمل على زيادة نفوذ الشراكسة وجلب المزيد منهم .  وسرعان ما نجح الأتراك في إيغال صدر السلطان على نائبه ، فقتله ونصب الأمير أقطاي التركي مكانه.  فزاد نفوذ الأتراك البحرية وزاد خطرهم على السلطنة الأمر الذي دفعه إلى الإستعانة بالمماليك الشراكسة البرجية.  فتحرك الأتراك ضد السلطان وخلعوه وعينوا أخاه حسن مكانه، ولكن البرجية أرادوا تعيين حسين .  فنقم السلطان حسن منهم ونفى بعضهم وسجن البعض الآخر. 

وأدى ضعف الشراكسة إلى ظهور الخلافات الداخلية في أوساط الأتراك ، فتغيرت وجوه كثيرة خلال فترة صغيرة.  فقام السلطان بتقليل الإعتماد على المماليك ، فتصدى له قادة المماليك وإصطدموا معه في معركة قُتل فيها السلطان ، وعينوا سلطاناً آخر وآخر من البيت القلاووني هو شعبان بن حسين.  الذي إنقلب على قادة المماليك فسجن قسم ونفى قسماً آخر إلى الكرك.  وكان من بين الذين نُفوا إلى الكرك الأمير برقوق البرجي.  ولكن المماليك الذين كانوا في القلعة ضغطوا على السلطان ليعيد المنفيين إلى القاهرة.  وعاد المنفيون سنة 1371م وبينهم برقوق.  وفي العام 1377م كان لبرقوق دور نشط في الإطاحة بالسلطان وتعيين المنصور علي .  وقد تدرج من منصب متواضع وهو أمير عشرة في القصر السلطاني إلى أمير طبلخانة ثم أمير مائة ومقدم ألف ثم ترقى إلى أمير آخور.  وقد أظهر برقوق دهاءاً متناهياً طوال سيرته، فكان يدفع خصومه للتخلص من بعضهم بعضاً.  وبعد سلسلة طويلة من المؤامرات وجه معظمها ضد حلفاءه، إستطاع برقوق عزل السلطان وتعيين سلطان آخر، حيث أصبحت السلطة مركزة في يده فعلياً. ثم قام في الخطوة النهائية في العام 784هـ           (1382م).  ومن أجل كسب الشرعية دعا القضاة الأربعة وكاتب السر والخليفة ، حيث شرح كاتب السر واقع البلاد وحاجتها إلى حاكم قوي ، فأيد كلامه الخليفة.  وتم تنصيب برقوق سلطاناً.  وكانت حالة البلاد فعلاً مزرية.

 

الظاهر سيف الدين برقوق ( 1382- 1399)          

بدأ برقوق عهده بالعمل على ترسيخ قواعد حكمه، بإحاطة نفسه بأشخاص يثق بهم ويبعد من لم يكن موضع ثقة.  ثم باشر بجلب مماليك شراكسة بأعداد كبيرة.  ثم عمد إلى إجراءات جذرية مهمة مثل إعادة تنظيم الجيش وإعادة توزيع الإقطاعيات، فجرد قسماً من المماليك البحرية من إقطاعياتهم، وأعطاها إلى مماليك برجية من مؤيديه. 

فدفعت هذه الإجراءات جماعة من المماليك إلى الثورة عليه، كما حاول الخليفة إقصاءه وتولي السلطة بنفسه، ولكنه نجح في إجهاض هذه المحاولات جميعها.  ولكن محاولة أخرى تمكن مدبروها من إقصاءه عن عرش السلطنة سنة 790هـ ( 1388م ).  ولكن إختلاف خصومه وسوء تصرفهم ، مكن برقوق من العودة إلى السلطة بعد سنتين.  

لم تخلو فترة حكم برقوق الثانية من قلاقل داخلية وثورات، بل بدأها بشن حملة للقضاء على خصومه المعتصمين في مدن الشام، حيث تمكن من القضاء عليهم.  كما قامت ضده ثورات أخرى ، كانت جميعها فاشلة، إلا أن الخطر الأكبر الذي تهدد برقوق والمماليك ومصر والشام في زمنه كان خطراً خارجياً ، وهو حملة القائد المغولي تيمور لنك على غرب آسيا.

 

برقوق وبايزيد

عاصر برقوق السلطان العثماني بايزيد، وكانت تربط الدولة العثمانية الصاعدة علاقة طيبة بدولة المماليك.  وقد شعرت الدولتان بالخطر المغولي القادم، وقد بادر العثمانيون في العام 1388م بتزويد المماليك بمعلومات عن تحرك تيمور لنك ، وكان ذلك في زمن السلطان مراد الأول ، الذي أرسل وفداً إلى بلاط السلطان برقوق يحمل رسالة يذكر فيها أن تيمور لنك توجه من تبريز إلى سمرقند، عاصمته، التي إعتاد أن يعود إليها بعد كل حملة ينتهي منها . 

وفي عهد ولده بايزيد عمل السلطان العثماني على إقامة تحالف مع المماليك.  ولكن برقوق لم يكن متجاوباً معه إلى درجة إقامة تحالف ، فأظهر إستعداده لقبول المساعدة ، ولم يظهر حماس لربط نفسه بتحالف مع بايزيد، فلم يكن يثق به .

وفي العموم كانت سياسة المماليك تجاه الدول الإسلامية الأخرى تسيطر عليها فكرة أن لهم مكانة خاصة لرعايتهم وإحتضانهم للخلافة، ويتوقعون من الآخرين قبول هذه المكانة، وكان هذا يُضفي شيئاً من الصلف على سياساتهم.

وفي سنة 1393م أغار بايزيد، ضمن مساعي العثمانيين التوسعية، على إمارة قيسارية التركية ، التي كانت تحت حماية المماليك.  وقد تم تهدئة الأزمة على الفور نظراً لإقتراب خطر تيمور لنك ، فقبل برقوق إعتذار بايزيد ، وقام بإرسال أحد أمراءه لإصلاح الوضع بين العثمانيين وأمير قيسارية.  إستغل بايزيد فرصة الوساطة، فأرسل موفداً آخر يحمل رسالة تحذر برقوق من تيمور لنك .  وفي هذه الرسالة طلب من برقوق إرسال طبيب ليعالجه من مرض المفاصل.  فرد عليه برسالة ودية وأرسل له طبيباً ومعه الأدوية اللازمة. 

وفي العام 1395 أرسل بايزيد يخبر برقوق أنه جهز مائتي الف فارس لمواجهة تيمورلنك.  وفي العام التالي أرسل رسالتين إلى القاهرة ، الأولى للخليفة يطلب منه تقليداُ بعد إنتصاره على تحالف أوربي بيزنطي في معركة نيكوبوليس الحاسمة، حيث هزم العثمانيون تحالف بقيادة ملك المجر وشاركت فيه معظم دول أوربا الغربية ، أما الرسالة الثانية فكانت موجهة لبرقوق يبشره بهذا الإنتصار، ويرفق معها هدية تتكون من أسرى فرنسيين وإيطاليين، بلغ عددهم مائة.  أرسل الخليفة التقليد للسلطان بايزيد.  

 

برقوق وتيمورلنك

وصل أول تحذير لبرقوق عن خروج جيش مغولي من سمرقند سنة 1386م، حيث إستولى على مدن كثيرة وأقاليم واسعة ووصلت جيوشه إلى تبريز.  وفعلاً وصل تيمورلنك بجيشه إلى تبريز وخربها ، وفي العام التالي وصل إلى الرها ونهبها ودمرها، وتقدم بجيوشه نحو ملطية، في شمال الجزيرة الفراتية، والتي كانت خاضعة للمماليك، ثم تقدم نحو آمد ، ثم مضى إلى سيواس، فأرسل قاضيها رسالتين يطلب مساعدة إلى كل من برقوق وبايزيد، اللذين وعدا بالمساعدة. 

قرر برقوق إرسال حملة إستطلاعية بقيادة أحد قادته العسكريين، وكان تيمورلنك قد عاد إلى سمرقند وتوجه إلى شمال البحر الأسود لمحاربة القفجاق ، مغول القبيلة الذهبية.  وعندما وصلت الحملة إلى شمال الشام صادفت فلول جيش تيموري ، الذي كان قد تلقى هزيمة للتو على يدي جيش عراقي ينتمي لدولة قراقوينلو (الخروف الأسود) التركمانية.  فقام الجيش المملوكي بأخذ ما إستطاع منهم أسرى ، وكان بينهم أطلمش توجين ، أحد قادة تيمورلنك الكبار.  فأرسله إلى القاهرة.

بعد فراغه من حوض الفولغا بمحاربة القفجاق المغول المسلمين دون تمكنه من القضاء عليهم، توجه تيمورلنك لمحاربة سلطنة دلهي ، التي إتهم سلاطينها المسلمين بالتساهل مع رعاياهم الهندوس.  ولم يفرغ للشام والأناضول إلا في العام 1393، فبدأ تحرشاته بإرسال إلى مجد الدين عيسى حاكم ماردين، في جنوب شرق الأناضول، يطلب منه أن يحضر ويقدم له الولاء .  وكان الأمير مجد الدين حليفاً للمماليك ويحتمي بهم، فكتب لبرقوق بذلك، وكان رده على كتاب تيمورلنك بالإعتذار عن عدم تمكنه من الحضور دون موافقة السلطان المملوكي. 

ويبدو أن الخطر التيموري على المنطقة كان جاداً إذ وصلت رسالة أخرى من بغداد من السلطان أحمد بن أويس الجلائري ، يحذره من التهاون في مواجهة الخطر الداهم.  ويبدو أن برقوق أظهر بعض اللامبالاة حتى تسلم تحذيراً من هذا النوع من حليف. 

تحرك تيمور على رأس جيشه فور إستلام رد أمير ماردين، ولكنه إستمر في محاولة إقناعه أن السلطان المملوكي ليس له عليه طاعة ويرغبه بإقامة علاقات ودية. 

ومع تقارب الخطر بدأ مشروع تحالف دفاعي يتبلور، فأصبحت دمشق ، حيث تواجد السلطان قلاوون، محور الجهود التي أدت إلى قيام إتفاق عام للتحالف في العام 1393، الذي لعب تختمش ، سلطان القفجاق، دوراً نشطاً في عقده، فبعد أن عاد تيمورلنك عن غزو دولة القفجاق في العام 793هـ ( 1391م ) ، وسلطانها تختمش لم يهدأ ،  فكان تختمش على ثقة من أنه سيعود ويهاجمه ثانيةً،  وبالتالي يجب الإعداد لمواجهته.  وفعلاً قام تيمور لنك بغزو العراق في العام 795هـ ( 1393م ) ، حيث إستباح بغداد،  وهرب السلطان أحمد إلى مصر.  وكعادته عاد تيمورلنك إلى سمرقند بعد أن ترك والياً من طرفه وحامية في بغداد.

  ولهذا الغرض إستقبل برقوق وفود من تختمش وبايزيد وأحمد بن أويس وغيرهم من الأمراء.  كما قام بتحصين القلاع الحدودية وتعزيز عناصر الصمود فيها.  ولكن ما أن إبتعد الخطر التيموري حتى عاد برقوق إلى القاهرة.  وفي القاهرة تلقى برقوق رسالة من تيمورلنك، وقد أُوقف حملة الرسالة على الحدود، وفي الرسالة طلب تيمور من برقوق إطلاق سراح أطلمش ، قائده الأسير، فرد عليه برقوق بأنه لن يطلق سراح ما عنده من أسرى حتى يقوم تيمور بإطلاق من عنده من أسرى، وأرفق بطي رسالته رسالة من أطلمش يذكر فيها أنه يُعامل معاملة حسنة.

كما وصل إلى القاهرة السلطان أحمد ، الذي طلب مساعدته في إستعادة عرشه في بغداد.  وفي هذه الأثناء أرسل تيمورلنك وفدين إلى القاهرة، ويبدو أنه كان يهدف بذلك التفرد بخصومه ومنعهم من التوحد ضده.  وفي المرتين إستقبل برقوق الوفود بحذر ، وفي الثانية قام بقتل الرسل. 

وفي هذه الأثناء بدأ تيمور لنك زحفه من بغداد بإتجاه الشمال، فإجتاح ماردين سنة 1394م، ثم إكتسح أرمينيا وأذربيجان ووصل إلى شمال البحر الأسود.  ولم تكن جيوش المماليك غائبة عن هذه الحرب إذ هاجمت جيوش ولاة شمال الشام قوات تيمورلنك وأوقعت بها هزيمة وأخذت أسرى.  وحين وصلت هذه الأخبار إلى القاهرة قام برقوق بتجهيز جيش وزحف على رأسه لمحاربة تيمور لنك.  ووصلت رسالة أخرى أثناء إعداد الجيش من تيمور لنك تطلب من برقوق إعلان طاعته له.  فرد عليه رافضاً [2] .

عاد تيمورلنك إلى أطراف الشام ، ولكنه عاد إلى مهاجمة تختمش عندما علم بتقدم برقوق على رأس جيش كبير.  وإغتنم برقوق الفرصة فأرسل جيشاً إلى بغداد وطرد الأمير مسعود ، نائب تيمور لنك سنة 797 هـ (  1395م ) ، وخطب للسلطان برقوق ، وضرب السكة بإسمه [3] .  وهذه كانت المرة الوحيدة التي حكمت فيها بغداد من القاهرة.

وبقي التوتر سائداً على العلاقة بين دولة المماليك والدولة التيمورية .  كما ساد الجمود على العلاقة إلى أن توفي برقوق .  عندئذٍ إعتقد تيمورلنك أن الفرصة قد حانت له أن ينقض على دولة المماليك التي سادتها الفوضى.      

إعتلى العرش المملوكي فرج بن برقوق سنة 801هـ ( 1399م ) ، وبنفس السنة غادر تيمورلنك الهند على عجل قاصداً غرب آسيا ، حيث طمع في الإستيلاء على بلاد المماليك وإمارة سيواس في شمال شرق الأناضول ، التي توفي أميرها القاضي برهان الدين في نفس السنة.  وصل تيمورلنك إلى تبريز ، ومنها هاجم بغداد وإستعادها من أحمد بن أويس، الذي هرب إلى الموصل مستغيثاً بحليفه قرا يوسف ، من أسرة قراقوينلو التركية الحاكمة في شمال العراق، والتي كانت ضمن التحالف العام المناوئ لتيمور.  فقاما بمهاجمة بغداد ، ولكنهما إرتدا عنها منهزمين إلى الشام.  وكان معهما جيشيهما البالغ تعدادهما بحدود عشرين ألف مقاتل.  وعندما إقتربا من حلب بعثا يستأذنان نائبها في دخول المدينة.  ويبدو أنه خافهم فإستعان بنائب حماة لمنعهم من دخول المدينة.  ووقع قتال بين الطرفين، فنجح النائبان في تحويل الحلفاء إلى أعداء، ثم فشلا في صدهما وخسرا المعركة .  بعد ذلك كتب السلطان أحمد بن أويس معتذراً إلى السلطان فرج بن قلاوون ذاكراً له أنهم جاؤوا مستجيرين به.  ولكن السلطان فرج كتب لنائبه على دمشق يطلب منه قتالهم ، فلجئا إلى بايزيد العثماني، الذي رحب بهما.  فنقم تيمورلنك على بايزيد وطلب منه في رسالة أن لا يساعد أحمد بن أويس ورفيقه، وأن يقف على الحياد ، كما وقف هو على الحياد أثناء معركة نيقوبوليس التي خاضها بايزيد مع الجيوش الأوربية عام 1396م [4] .  فرفض بايزيد ذلك .         

بدأ تيمورلنك بمهاجمة سيواس ، في شمال شرق الأناضول ، فدمرها ونهبها.  ثم تحول إلى ملطية وإقتحمها ودمرها.  وإنتقل إلى محاربة المماليك ، فكتب من ملطية يتهدد المماليك ويطلب إطلاق سراح قائده الأسير لديهم.  وصلت الرسالة إلى حلب، فإستلم نائب حلب الرسالة وبعثها إلى القاهرة ، فوصلت متأخرة ستة أشهر.  وكانت الخلافات بين أمراء المماليك مشتعلة ، والملفت للنظر أنها إستمرت على الرغم من الخطر الداهم، على غير عادة المماليك ، الذين كانوا يتحدون عند تعرضهم لخطر خارجي.  وكان رد فرج أن طلب من نائبه في حلب إعتقال الرسل .  وفي هذه الأثناء توغلت قوات تيمورلنك في شمال بلاد الشام، وسيطرت على مدنها الواحدة بعد الأخرى.  وعندما أدرك نواب المدن الشامية أن السلطان لم يخرج لنجدتهم، بل إكتفى بإرسال قوة صغيرة ،  قرروا مواجهة عدوهم بالحاميات المتوفرة في مدنهم.  فإجتمعوا خارج حلب مع عددٍ كبير من المتطوعين، ولكنهم خسروا المعركة عند اللقاء.  ودخل جيش تيمور لنك حلب ونهبها وإرتكب المجازر وأشعل الحرائق.

ثم إتجه من حلب إلى دمشق سنة 803هـ ( 1400م ) ، وفي الطريق تولى أحد أبناء تيمورلنك إجتياح بعلبك وحمص وحماة، وفعل فعل والده في هذه المدن.  وفي دمشق سادت الفوضى، فقد لجأ إليها أعداد كبيرة من أبناء المدن المحتلة، كما طلبت سلطات المدينة من أبناء الضواحي دخول المدينة بعد إحراق بيوتهم حتى لا يستفيد منها جيش تيمور.  وصل السلطان فرج إلى دمشق قبل وصول تيمور إليها بقليل.  وكان يتنقل مع حاشية منقسمة على نفسها ، الأمر الذي إنعكس على كل قرار صدر عن السلطان. 

وقع قتال تخلله مفاوضات ، بين تيمورلنك المراوغ وبين فرج المتردد، وأوشك الطرفان أن يتوصلا إلى إتفاق، ولكن تيمورلنك علم بمدى ضعف جبهة المماليك الداخلية فتقدم إلى قرية داريا ، جنوب دمشق وإحتلها ، مما جعله يحاصر دمشق من الجنوب إضافةً إلى الغرب .  وفي معسكر السلطان المملوكي كثر الحديث عن ضرورة تنصيب سلطان قوي في هذه الظروف، وكان أن إختفى بعض الأمراء من المعسكر، فإعتقد البعض أنهم توجهوا إلى القاهرة لتنصيب سلطان آخر، فأقنعوا فرج بالتوجه إلى القاهرة لحماية عرشه.  وفعلاً قام السلطان فرج ، الذي لم يكن لديه أمل في النصر ، بالرحيل عن دمشق تاركاً أهلها لمصيرهم.

قرر أهل دمشق مواجهة تيمورلنك على الرغم من تخاذل السلطان وهربه، وكان فقهاؤها قد أصدروا فتوى تدعو للقتال.  وفعلاً تمكن  المدافعون من صد جيش تيمورلنك وأجبروه على التراجع ، فلجأ تيمور إلى الحيلة وتظاهر بقبول الصلح.  فخرج إليه وفد برئاسة قاضي القضاة ، وكان ضمن الوفد المؤرخ إبن خلدون ، الذي تحدث أمام تيمور حديثاً أثار إعجابه.  وكان رد تيمورلنك من أفضل ما توقع المفاوضون، فقد قال لهم أنه أعتق المدينة لرسول الله ( ص ) صدقة عنه وعن أولاده.  ولكن لا بد من الطقزات ، وهي عادة كان تيمورلنك يأخذ تسعة من أنواع المأكولات والمشروبات والجواري والجواهر والدواب والملابس والتحف.  والكلمة في التركية تعني تسعة.  كما إشترط عليهم تسليمه أموال السلطان فرج وأمراءه.

وقد حذر بعض وجهاء المدينة من غدر تيمورلنك ، ولكن الأغلبية وافقت على الصلح ، وما أن دخل تيمور المدينة حتى قسمها بين أمراءه لإبتزاز الأموال من أهلها، وقبل مغادرة المدينة أستباحها لمدة ثلاث أيام ، فنهبوها وإعتدوا على الأعراض واضرموا فيها النيران، وبقيت مشتعلة لمدة ثلاثة أيام.  وقد إعتبر تيمورلنك ، الذي كان متشيعاً ، ذلك إنتقاماً من أهل دمشق الذين أيدوا معاوية وإبنه يزيد ضد علي بن أبي طالب وإبنه الحسين.  وقد رافقه عند دخول دمشق أربعين فتاة من الطائفة النصيرية للنحيب على الحسين وبالتالي التحريض على أهل دمشق. 

وغادر تيمورلنك دمشق إلى سمرقند وقد أخذ معه أعداد كبيرة  من الصناع والحرفيين والفنانين والأطباء، وكان هذا من أهم أسباب تخلف هذا الإقليم علمياً وفكرياً.  وكان مما أثار حفيظة تيمورلنك وصول رسالة من فرج يقول له فيها أنه إنسحب لأسباب أخرى وليس خوفاً منه ، فإنتقم من أهل دمشق [5] .        

لقد نجم عن حملة تيمورلنك على بلاد الشام نتائج مدمرة على الإقتصاد ، فقد تراجعت الزراعة والصناعة والتجارة ، كما تناقص عدد السكان .

ولم يعد تيمورلنك إلى المنطقة حتى العام 1402م ، حيث تواجه مع السلطان العثماني بايزيد قرب أنقرة وإنتصر عليه وأخذه أسيراً .  وعاد بعد ذلك إلى سمرقند ، حيث مات وهو يستعد لغزو الصين.

وإثناء عودته إلى سمرقند أرسل رسالة يطالب فيها فرج بإطلاق سراح القائد التيموري أطلمش ، ويخبره بإنتصاره على بايزيد ، فوافق فرج وأطلق سراحه ، ووصل أطلمش إلى البلاط التيموري في تموز 1403م.

أما السلطان فرج ، فقد بلغ سن الرشد في العام 1405م،  وعاش لغاية العام 1412م، ومات إغتيالاً في دمشق بعد أن قضى على عصيان قام به نواب الشام ضد السلطنة [6] .

 

الخليفة يصبح سلطاناً

وصل التردي السياسي بعد مقتل السلطان فرج ، أن تردد كبار أمراء المماليك في إعتلاء سدة السلطنة ، فقد كان هناك أميران يعتليان التنظيم العسكري السياسي المملوكي، وهما نوروز الحافظي ، نائب دمشق في العام 1402م ، وشيخ المحمودي نائب دمشق في العام 1404م.  وقد خاف كلٌ منهما تآمر الآخر في حال أصبح سلطاناً، فإتفقا أن يتولى السلطنة الخليفة العباسي المستعين.  ولم يكن الخليفة ساذجاً ليقبل العرض دون توقع الأسوأ ، فقد إشترط على الأمراء أن لو أرادوا عزله عن السلطنة، أن لايعزلوه عن الخلافة كذلك. 

ولكن لم يمض شهوراً ، حتى أقنع شيخ الخليفة أن يعين نوروز نائباً على الشام مع صلاحيات واسعة بالتعيين والإقطاع.  فقبل نوروز ذلك ، ولكنه سمى نفسه نظام الملك ، وهو لقب ملوك وليس ولاة.  بل منع الخليفة السلطان من إصدار أي منشور إقطاعي في بلاد الشام بدون موافقته المسبقة.

أما شيخ فإنه إستغل إنتفاضة قام بها البدو فعزل الخليفة بحجة ضرورة وجود سلطان قوي بظروف كهذه.  ونصب نفسه سلطان وتلقب الملك المؤيد.

وقام بنفي الخليفة إلى الإسكندرية وعين أخاه خليفة مكانه ، الذي تلقب بلقب المعتضد.  وقد تبنى شيخ أسلوب جديد مع خصومه السياسيين وهو القتل ، وعدم اللجوء إلى سجنهم.  وفي بداية حكمه واجه تحدي كبير من منافسه نوروز ، الذي رفض الإعتراف بسلطنته ، فرد على ذلك بعزله من منصبه.  ثم جهز جيشاً كبيراً وإتجه إلى الشام ، وبعد صراع طويل ، لم يخلو من أعمال تآمر وخديعة ، إستطاع شيخ أن ينتصر على نوروز، وقتله ، رغم أنه صالحه واعداً بعدم قتله. 

ساءت الأوضاع الإقتصادية في زمن شيخ ، فقد أرهق الناس بالضرائب.  توفي شيخ سنة 1421م ، وفي زمنه إنتشر الطاعون في مصر ، فخرج يدعو الله لابساً لباس الدراويش وخرج معه رجال الدين، مسلمين ومسيحيين ويهود، حاملين مصاحفهم وأناجيلهم وتوراتهم ، يدعون الله أن يرفع البلاء.  ترك شيخ وراءه إبناً قاصراً لم يستقم له الأمر، كما لم يستقم الأمر لمن خلفه كذلك حتى تولى السلطنة برسباي سنة 1422م فحكم ستة عشر عاماً.  وكانت فترة حكمه مستقره، ولكن الأوضاع الإقتصادية إزدادت سوءاً.

 

الإستيلاء على قبرص

طوال القرن الرابع عشر، كانت قبرص ، التي كانت تحكمها أسرة لوسينيان الفرنجية ، مصدر إزعاج لدولة المماليك.  فبعد طرد الصليبيين من الساحل الشامي ، بقي لهم وجود في قبرص ورودس، حيث إستقر بقايا الصليبيين من فرسان ورجال دين وأمراء، التي كانت جزء من مملكة القدس، التي هذا اللقب لقرون بعد إخراج الصليبيين من بيت المقدس. 

وقد هوجمت المدن الساحلية الشامية والمصرية عشرات المرات من قبل سفن قبرصية وفي الغالب كانت تشاركها سفن جنوية ، الباحثة عن المزيد من التسهيلات التجارية ، كما إشتركت قوى أوربية أخرى في بعض الهجمات.  كما إمتدت الهجمات إلى السواحل ليبيا وتونس.

وفي عهد برسباي هاجمت سفن قبرصية ميناء دمياط وسلبت محتويات سفينتين كانتا فيه.  كما سلبت سفن قبرصية أخرى سفينة مصرية كانت محملة بهدايا إلى السلطان العثماني مراد الثاني.  فقام بإرسال حملة إستطلاعية مكونة من خمس سفن إنطلقت من دمياط وبيروت وطرابلس في سنة 828 هـ ( 1424 م ).  وعندما وصل الأسطول المملوكي إلى ليماسول وجدوا بالقرب منها سفينة تجارية راسية ففر بحارتها وأحرقوها.   ثم توجهوا إلى ليماسول ، حيث كان الملك جانوس قد علم بقدومهم وإستعد للقاءهم ، فإصطدم الأسطول المملوكي بثلاث سفن قبرصية فإنتصر عليها وأشعل فيها النار.  ثم دخلوا المدينة وإنتصروا على حاميتها ونهبوها وأخذوا أسرى وعادوا [7] .  وقد خرج المماليك بإستنتاجين من هذه الغزوة، وهما أن قبرص تدعم القراصنة ، حيث شاهدوا أدلة على ذلك، كما أدركوا أنها أضعف مما كانوا يعتقدون .  فباشر السلطان ببناء سفن جديدة في بولاق وفي بيروت وطرابلس ، كما نسق مع السلطان الحفصي في تونس ، الذي أخذ يستعد هو الآخر.  ومما شجعه على متابعة خطته إستمرار غزوات القراصنة. 

تجمعت سفن الأسطول في طرابلس ، وقد شارك في هذه الحملة المؤرخ صالح بن يحيى ، كقائد لإحدى السفن ، وأقلعت في سنة 828هـ ( 1425م ) قاصدةً فماغوستا في قبرص.

ومما يلفت النظر مشاركة المؤرخين في صنع التاريخ في العهد المملوكي مثل ابو الفدا والمقريزي وإبن تغري بردي وإبن خلدون وصالح بن يحيى ، الذين تركوا لنا أعمال ذات قيمة علمية كبيرة.

وبعد أربع أيام وصلت السفن إلى فماغوستا ، ونزل المقاتلون المشاة والفرسان إلى البر، فسارع حاكمها الجنوي إلى طلب الأمان ورفع العلم المملوكي على قصره.  ثم أقلع الأسطول بإتجاه لارنكا ، فلاقى أسطولاً قبرصياً فإشتبك معه وهزمه ثم نزل المقاتلون إلى البر وإشتبكوا مع جيش أرسله الملك بقيادة أخيه، فهزموه .  وتابعوا طريقهم نحو ليماسول ، حيث تمكنوا من السيطرة عليها وعلى قلعتها.

وعادت الحملة إلى مصر محملة بالغنائم والأسرى، وقد قرر قائد الحملة العودة إلى مصر لدى سماعه بقدوم أسطول من البندقية ، التي خافت على مصالحها في الشرق .

لم يكتفي برسباي بالنتائج التي أنجزتها الحملة ، فقد أراد حلاً جذرياً للخطر القادم من قبرص، فبدأ يستعد لحملة جديدة أكبر.  فتم إعداد مائة وثمانين سفينة إنطلقت من الإسكندرية في 829هـ (1426م).  وصلت سفن المماليك إلى ليماسول فإستولوا عليها بعد قتال عنيف.  ثم إتجهوا إلى نيقوسيا العاصمة ، فإلتقوا بجيش يقوده الملك جانوس في سهل خيروكيتا شمال شرق ليماسول ، فهُزم القبارصة ووقع جانوس في الأسر، كما حصلت مواجهة بحرية هُزم فيها القبارصة وحُرقت سفنهم .  وتابع الجيش البري زحفه نحو العاصمة ودخلها بيسر ومن القصر الملكي أعلن أن قبرص أصبحت " من جملة أملاك السلطان الأشرف برسباي " [8] .   بقيت قبرص تحت سيطرة المماليك إلى أن إنتهت فإنتقلت إلى العثمانيين سنة 1517 م.

 

المماليك والعثمانيين  

عانت الدولة العثمانية الفتية من الغزو التيموري معاناة شديدة، فقد أُجتيحت أراضيها وهزم جيشها ووقع في الأسر سلطانها وقائدها بايزيد.  كما عانت من أزمة وراثة حادة ألمت بالبيت العثماني إستمرت أحد عشر عاماً من عام 1402 إلى عام 1413م.  حتى إستقرت الأوضاع لأحد أبناء بايزيد وهو محمد شلبي ، الذي أعاد تأسيس الدولة من جديد وجعلها تقف على أقدامها بعد أن إهتزت من أعماقها.  إعتلى مراد الثاني الحكم ليكمل عملية ترميم الدولة وبناء جيشها، وفي عهده دخلت المدفعية في تسليح الجيوش ، فبنى المصانع ، وإستعان بالصناع المهرة من أوربا. 

تجددت علاقة الصداقة بين الدولة العثمانية ودولة المماليك بعد تفرغهما من مجابهة تيمورلنك.  فعندما إعتلى برسباي العرش المملوكي ، أرسل له السلطان مراد الثاني رسالة تهنئة وهدية.  وقام السلطان برسباي، بدوره ،  بإرسال رد وهدية .  ويبدو أن الهدية لم تصل لإستيلاء القراصنة عليها أثناء الطريق ، ولكن ذلك لم يؤثر سلباً على رغبة مراد الثاني في إقامة علاقة تحالف قوية ، فقد إستولى المماليك في هذه الفترة على جزيرة قبرص، ذات الأهمية الإسترتيجية للأناضول، كما كان العثمانيون يواجهون تحالفاً أوربياً يشكل تهديداً كبيراً لدولتهم.  وهذا ما يؤيده إرسال وفد مُهنئ ثاني ، للتهنئة بفتح قبرص [9] .  وقد بقي الوفد العثماني في القاهرة إلى أن عاد الجيش المملوكي ومعه الأسرى ومن بينهم ملك قبرص، وشاركوا في الإحتفال . وأثناء وجود برسباي فس حلب إستقبل إثنين من أمراء العثمانيين وإصطحبهم معه إلى القاهرة. 

وفي عهد السلطان جقمق، تم تبادل الرسائل الودية والهدايا.  وبعد إنتصاره في معركة فارنا، قام مراد الثاني بإرسال هدية إلى السلطان المملوكي تضم خمسين أسيراً وخمسة جواري وكمية من الحرير. 

وبعد فتح القسطنطينية ، أرسل السلطان إينال رسالة تهنئة ، وإحتفلت القاهرة وزينت أسواقها وأوقدت الشموع ودُقت البشائر السلطانية في القلعة عدة أيام [10] .

بعد فتح القسطنطينية، تغيرت أمور كثيرة.  فقد كان المماليك يعدون أنفسهم قادة العالم الإسلامي، وذلك لأنهم كان لهم شرف وضع نهاية للحروب الصليبية، التي إستمرت قرون ، وعاصرت دول عديدة، كما كان لهم شرف إيقاف الزحف المغولي في القرن الثالث عشر، وهم كذلك يرعون الخلافة ويحرسون المقدسات.  أما الدولة العثمانية فقد كانت في القرنين الثالث عشر والرابع عشر ، واحدة من إمارات تركية عديدة موجودة في الأناضول ، كانت تسمى بيكويات Beyleks .  وعلى الرغم من إنجازات مؤسسي الدولة ، عثمان وأورخان ، قبل حملة تيمور لنك ، فإن سلاطين الدولة المملوكية كانوا يتصرفون مع العثمانيين على أنهم قادة العالم الإسلامي ، وكان العثمانيون يقبلون ذلك ويقرون به. 

ولكن مع تقدم الوقت ، كان العثمانيون يبنون دولتهم ويعتنون بإقتصادها وقدراتها العسكرية، وكان المماليك يتنافسون على السلطة ويدمرون إقتصاد بلادهم بشكل منظم.  وبعد فتح القسطنطينية، أصبحت الدولة العثمانية إمبراطورية.  وكان محمد الثاني أول من تلقب بلقب سلطان . ثم إتجه العثمانيون  بفتوحاتهم إلى الشرق، فإستولوا على شمال الجزيرة.  وهنا تم الإحتكاك بالدولة المملوكية وأصبح الترقب والتوجس والتنافس على قيادة العالم الإسلامي يطغى على العلاقة بين الدولتين. 

وفي العام 1463م رفض السفير العثماني الإنحناء للسلطان المملوكي عند مقابلته. 

وفي العام 1468م توترت العلاقات نتيجةً لإستيلاء العثمانيين على إمارة القرمان وعاصمتها قونية ، وتحولت الإمارتين الفاصلتين ، ذي القدر ورمضان إلى ساحة صراع بين الدولتين.  ولكن السلطانين إتفقا على عدم التدخل في شؤون الإمارتين الداخلية.

ولكن العلاقة ساءت من جديد في عهد بايزيد الثاني في سنة 1481م، الذي إختلف على وراثة العرش مع أخيه جم، الذي فر إلى المماليك، حيث إستقبله السلطان قايتباي في القاهرة ، مما أثار غضب بايزيد [11] ، على الرغم من أن قايتباي لم يجب طلب جم بمساندته عسكرياً ، ومحاولته التوسط بين الأخوين.  وفي العام التالي عاد جم إلى الأناضول وتواجه مع أخيه وإنهزم ولجأ إلى الصليبيين في رودس.  وقد نجم عن أزمة جم أول صدام مسلح بين الدولتين .  ثم قام المماليك بالسيطرة على إمارة رمضان وسيطر العثمانيون على إمارة ذي القدر، وبهذا تم تصفية الدولتين العازلتين. 

وتوترت العلاقات أكثر عندما رفض السلطان قايتباي السماح للسلطان بايزيد الثاني إصلاح بعض قنوات المياه في مكة.  وعلى ما يبدو أنه إعترض هدية مرسلة من قبل سلطان الهند إلى السلطان بايزيد ، ولكنه عاد وأرسلها بعد فوات الأوان [12] .  

وقد بادل بايزيد العداء بقطع توريد الخشب الذي يحتاجه المماليك لصنع السفن، كما منعوا توريد فتيان المماليك من القفقاس، بل هاجمت الجيوش العثمانية بلاد الشركس وأوقفت تجارة الرقيق فيها سنة 1484م.  كما ساندت الدولة العثمانية إمارة ذي القدر، التي أصبحت تابعة لها، في هجومها على ملطية التابعة لدولة المماليك سنة 1483م.  وبنفس السنة أرسل المماليك جيشاً لتأديب إمارة ذي القدر، فإنتصروا عليها على الرغم من مساندة العثمانيين.  وعاد الجيش المملوكي بالغنائم .

وقد حاول قايتباي الجنوح إلى السلم، حيث أرسل وفداً إلى إستانبول يحمل رسالة منه ورسالة من الخليفة، ولكن بايزيد لم يحسن إستقبالهم ، ورفض الصلح.  ثم هاجم قلعة كولك ، الواقعة تحت حماية المماليك ، وضمها.  فقام المماليك بالرد ، فهزموا الجيش العثماني ثلاث مرات ، وفي الحملة الأولى وقع القائد العثماني نفسه في الأسر. 

ثم جرت حربين أخريين بينهما كانت الغلبة فيهما للمماليك ، على الرغم من تحقيق العثمانيين لبعض الإنجازات وإحتلالهم لبعض القلاع. من المفارقة الغريبة أن العثمانيين لم يتلقوا هزيمة واحدة على أيدي الأوربيين حتى هذا التاريخ، ولكنهم تلقوا هزائم كثيرة على أيدي المماليك.  

وفي العام 1491م توسط سلطان تونس وعُقدت إتفاقية سلام بين الدولتين ، أُعتبرت كبادوقيا وقيليقيا تحت حماية الحرمين الشريفين، أي، عملياً تحت إشراف المماليك.  وقد حدث الإتفاق تحت وقع ما يحدث لغرناطة على يد الإسبان، فتوقف القتال ونشطت الحركة التجارية بين الدولتين.     

 

  نهاية الدولة المملوكية

توفي برسباي سنة 1438م.  وكان يوسف بن برسباي لم يتجاوز الخامسة عشرة عندما تولى السلطنة.  وكما حصل سابقاً ، تكراراً ، فإن الوريث القاصر كان موضع طمع من قبل قادة المماليك ، الذين كان يُفترض أن يكونوا أوصياء وموجهين ومربيين للسلطان الصبي، فهذا ما كان يأمله الأب قبل وفاته، وعندما أوصى بولاية العرش لإبنه.  وخلال ثلاثة أو أربع أشهر ، وفي إجتماع لمجلس كبار قادة المماليك ، طُرح إسم جقمق ، وهو شركسي من مماليك برقوق ، وللمفاجئة أجمع الحاضرون على إنتخابه ، وتم عزل السلطان وسجنه بالقلعة [13] .  وكان عمر جقمق عندما تولى السلطنة خمسة وثلاثين سنة.  وقد بدأ عهده بالتخلص من الذين يطمحون في السلطنة ، ثم وجه جهوده للإستيلاء على رودس ، التي كانت بأيدي الصليبيين، الذين كانوا يغيرون على سواحل سوريا ومصر وليبيا.  وقد شجعه على ذلك إنجازات سلفه في قبرص.  وقد أرسل ثلاث حملات ، ولم يتمكن من الإستيلاء على الجزيرة ، ولكنه ألحق بها الكثير من الأذى ، فجنح الطرفان إلى التفاوض ووقعا معاهدة.   

وقد حكم جقمق لمدة خمسة عشر سنة، وقد كان عادلاً، وقد مرض في آخر أيامه مما جعله يتنازل عن العرش بوجود الخليفة ويعين إبنه عثمان سنة 1453م،  ومات بعد ذلك بأيام.

كان عثمان في الثامنة عشرة من عمره عندما إعتلى عرش السلطنة ، وتكرر النهج نفسه ، فقد إتفق قادة المماليك على خلعه ، فإتفقوا على إينال ، الذي قاد الأسطول في الهجوم على رودس،  فعزل عثمان وسجن. 

وقد كان إينال أمياً وحسن الخلق وهو من مماليك برقوق.  وقد شهد عهده الكثير من القلاقل، التي لم يستطع السيطرة عليها.  كما كانت إدارته المالية فاشلة فقد فرغت الخزينة في عهده.  كما وصل خبر إستيلاء العثمانيين على القسطنطينية في عهده ، فإحتفل أهل القاهرة .  ومات في سنة 1461م بعد أن حكم ثماني سنوات. 

أوصى إينال لإبنه أحمد ، الذي لم يكن قاصراً ، فقد كان في الثلاثين .  ومع هذا فقد إضطر للتنازل عن العرش بعد أربعة أشهر.  وتم تعيين خشقدم .  وقد كان من أصل يوناني، وكانت هذه سابقة أثارت حفيظة الشركس.  وقد بدأ عهده بالتعامل مع منافسيه، وكان يتزعمهم نائب دمشق، الذي توفي بينما كان الجيش يغادر القاهرة، فإستقامت الأمور بدون قتال.   ولم يكن خشقدم عادلاً وإنتشر في عهده الفساد وكثرت ثورات البدو، وفي زمانه ساءت العلاقة مع العثمانيين.  وتوفي في سنة 1467م.

بعد تولي إثنين من المماليك السلطنة تمكن قايتباي من حسم الأمور لصالحه خلال أقل من عام ، وهو مملوك شركسي ، وفي زمانه ساءت أوضاع البلاد ، كما بدأت الإحتكاكات مع العثمانيين تتزايد.       

توفي قايتباي  سنة 1496م. 

حكم في السنوات الخمس التالية ثلاث سلاطين ، ثم إعتلى سدة السلطنة قانصواة الغوري سنة 1501م ، وقد رفض العرض الذي عرضه عليه قادة المماليك أولاً ثم قبله وهو إبن ستين سنة .  وقد إنشغل في بداية عهده بجمع الضرائب ، التي أرهقت الرعية بكل فئاتها.  وقد إستخدم هذه الأموال في إسترضاء المماليك وفي القيام بمشاريع إنشائية مثل توسعات في القلعة، وبناء مسجد ومدرسة ومشاريع مائية وتحصين الإسكندرية وتجميل المسجد الحرام في مكة.  وقد إستفاد من الأموال التي جمعها في حملة شنها ضد البرتغاليين في بحر العرب، حقق فيها بعض النجاح.   

وكان قانصوه الغوري آخر سلاطين المماليك ، إذ أصبحت مصر وسوريا ولا يتين عثمانيتين في العام 1517م بعد إجتياحهما من قبل الجيوش العثمانية.

 

السلطان سليم الأول

إعتلى السلطان سليم الأول العرش العثماني سنة 918هـ  ( 1512م )، بعد وفاة أبيه بايزيد الثاني     ( 1481- 1512 ) ، وقد كان محباً للعلم والأدب والشعر، خصوصاً الشعر الفارسي، وكان يحب صحبة رجال العلم ، وكان يحب إصطحاب المؤرخين إلى ميادين القتال ليسجلوا وقائع المعارك .  كما كان يحب إصطحاب الشعراء فيسمع منهم الجيش القصائد الحماسية التي تحكي بطولات الذين سبقوهم. 

وفي عهده توقف الفتح العثماني في أوربا، وإتجه نحو المشرق.  وقد إختلف المؤرخون في تبرير ذلك، فمنهم من يقول أن التوسع العثماني في الغرب الأوربي وصل حد التشبع، بينما ينكر آخرون ذلك بحجة أن فتوحات العثمانيين إستمرت بعد ذلك .  ويعزي آخرون ذلك إلى رغبتهم في حماية العالم الإسلامي من الخطر البرتغالي، الذي ظهر في بحر العرب، أو حماية العراق والشام من الخطر الصفوي المختلف مذهبياً مع الدولة العثمانية،  أو للقضاء على دولة المماليك التي تقف في طريق تزعم العثمانيين للعالم الإسلامي، خاصة أن بوادر خلاف ظهرت في العقود الأخيرة. 

 

الدولةالصفوية

وهي دولة حكمت إيران وأجزاء أخرى من العالم الإسلامي طوال القرنين السادس عشر والسابع عشر.  وقد بدأت كحركة صوفية في شمال غرب إيران وشرق الأناضول على يد صفي الدين الأردبيلي المولود سنة 650هـ ( 1252م )، كرد فعل لحالة الهزيمة والدمار والفراغ السياسي الذي تسبب بها الإجتياح المغولي في القرن الثالث عشر. 

وبعد إنحسار الدولة التيمورية في القرن الخامس عشر قام الشيخ جنيد، شيخ الصفوية بتحويلها من طريقة روحانية صوفية إلى حركة سياسية تسعى إلى السلطة ، ومن حركة سنية إلى حركة شيعية. 

وفي العام 1501 تمكن شاه إسماعيل ، قائد الحركة حينئذٍ، من إعلان دولته في أذربيجان ، وخلال العام التالي أخضع إيران بكاملها.

ويعتقد بعض المؤرخين أن العثمانيين إضطهدوا الشيعة في الأقاليم التي حكموها، والتي إتسعت شرقاً في نهاية القرن الخامس عشر، وبالتالي فقد إستفادت الحركة من حالة النقمة ، التي خلقت حاجة للشيعة لتنظيم أنفسهم ، فظهرت الحركة الصفوية وكأنها الحل ، فإلتف حولها الآلاف ، فتمكن إسماعيل من السيطرة على أردبيل ، التي كانت تحت حكم أحد أمراء دولة الخروف الأبيض التركمانية.  ثم سيطر على تبريز وجعلها عاصمته ، وفي العام 1502 أصبح شاه إيران .  ومن أجل الحصول على شرعية إدعى أنه من سلالة علي بن أبي طالب، ثم إدعى أنه من سلالة ملكية فارسية وتلقب شاه،  وتابع توسعه فإستولى على همذان سنة 1503، وشيراز وكرمان سنة 1504، والنجف وكربلاء سنة 1507، وأجزاء من شرق الأناضول سنة 1508، وبغداد وبقية العراق سنة 1509، وخراسان وهيرات سنة 1510م. 

وعلى الرغم من أن الدولة الصفوية تعد موروث فارسي ، وتشكل ركناً أساسياً من التاريخ الإيراني ، فإنها لم تكن كذلك عند بداياتها ، فقد إعتمدت على محاربين تركمان ، كما أن مؤسس الحركة ينتمي إلى أصول كردية حسب بعض الروايات المرجحة.

قبل صعود الحركة الصفوية ، وسيطرة الصفويين ودولتهم على إيران ، لم تكن أكثرية مسلمي إيران من الشيعة ، على الرغم من أنها حُكمت من قبل أُسر شيعية من قبل ، مثل البويهيين الذين كانوا على المذهب الزيدي.  وقد كانت مدن مثل قم تضم أكثرية شيعية منذ مرحلة مبكرة .  كما أن أحد الخانات المغول تحول إلى المذهب الشيعي الجعفري ، وهو إلجايتو ، ومع ذلك بقي أكثرية سكان إيران من أتباع المذهب السني حتى مجيء الصفويين إلى الحكم .  حيث أجبروا السكان على التشيع وإضهدوا الذين رفضوا الإنصياع ، وقتلوا رجال الدين السنة ، كما حرموا الجماعات الصوفية ، على الرغم من خلفيتهم الصوفية.

 

الحرب مع الصفويين

وقد وصلت الدعوة الصفوية إلى الأقاليم التابعة للدولة العثمانية، كما وصلت الأخبار عن إضطهاد السنة إلى مسامع السلطان سليم.  وقد أدرك السلطان حجم الخطر الذي تمثله هذه الدعوة ودولتها.  وعلى هذا الأساس دعا إلى إجتماع لكبار رجال الدولة والعلماء والقادة العسكريين ، وخاطبهم شارحاً لهم الخطر الصفوي وبين لهم ضرورة مجابهتهم .  فباشر السلطان سليم بمتابعة أتباع الصفويين في أقاليم الدولة وملاحقتهم وسجن البعض وإعتقال البعض الآخر.  ثم إتجه السلطان سليم إلى الشاه إسماعيل ، فبدأ بالكتابة له .  فوصفه بأنه مرتد وأن قتاله واجب ولكنه يطلب منه أن يثوب إلى رشده ويعود إلى حظيرة الدين .  وكان رد إسماعيل أن بعث له كمية من الأفيون برفقة رسالة يقول فيها للسلطان سليم أنه كتب رسالته تحت تأثير الأفيون [14] .  عند ذلك قام السلطان سليم بعقد هدنات مع البندقية والمجر وموسكو .  وإتجه إلى حرب الصفويين سنة 920 هـ ( 1514 م ) ، وكان يقود الجيش بنفسه،  فهزمهم في عدة معارك حتى أستطاع السيطرة على تبريز.  وهرب الشاه ، وقد وقعت إحدى زوجاته في الأسر ، كما إستولى السلطان سليم على خزائنه .  ثم تابع الجيش العثماني ملاحقة الجيش الصفوي حتى ضفاف نهر الرس .  وهناك إمتنع الجيش العثماني الإنكشاري عن التقدم بسبب البرد ووعورة الأرض.  فرجع إلى الأناضول ، ليعود في الربيع التالي ويفتح بعض القلاع [15] .  وما لبث أن عاد إلى إستانبول، وترك بعض قادته يكملوا المهمة ، ولكن المهمة لم تكتمل ، فلم يتمكن من القضاء على الدولة الصفوية ، وبقي العداء بين الدولتين يطبع التاريخ المشترك بينهما .

 

الحرب مع المماليك

بعد تفرغ العثمانيين من الصفويين توجهوا إلى تصفية منافسة وعداء إستمر لعقود طويلة .  فمنذ تردد المماليك في عقد تحالف مع العثمانيين ، وإصرارهم على التصرف بنظرة متعالية مع العثمانيين ، مصرين دائماً على تذكيرهم على أنهم قادة العالم الإسلامي.

لقد نجح المماليك في بناء مكانة هامة بين الدول الإسلامية، ولكنهم فقدوها تدريجياً نتيجة لضعفهم المتزايد الناجم عن كثرة الحروب الداخلية وتراجع إقتصادهم، وفي هذه الأثناء كان العثمانيون يبنون إمبراطورية كبيرة على حساب أمم أوربية في الغالب، وإتخذوا من القسطنطينية عاصمةً لهم ، بعد فتحها.  فتحققت على أيديهم نبوئة نبوية عمرها تسعة قرون .  وكانوا يملكون الإمكانيات ، ونجحوا في بناء إدارة وجيش عصريين.

وقد تصاعد العداء بين الدولتين لدرجة الإقتتال ، والتوغل من أجل الإحتلال .  كما كانت دولة المماليك ملجأً للأمراء العثمانيين المطالبين بعرش السلطنة العثمانية ، وهذا أمرٌ لا يحتمل بالنسبة للحكام .  وفي زمن قانصوة الغوري ، إستقبل أخو السلطان سليم، الأمير أحمد المطالب في العرش.

كما أن موقف المماليك في حرب العثمانيين مع الصفويين كان سلبياً ، فقد أرسل قانصوة الغوري موفداً إلى إستانبول ، كما أصبحت القسطنطينية تسمى ، للتوسط بين العثمانيين والصفويين ، ولكن السلطان سليم رفض إستقبال الوفد ، وقرر قتال المماليك [16] ، لأنه إعتبر ذلك إنحيازاً للصفويين .

وقد شجع العثمانيون على إتخاذ قرار الحرب كذلك توجه فقهاء الشام إليهم بالطلب لتخليصهم من ظلم وتعسف المماليك ، وكان فقهاء مصر، منذ سنين ،  يلتقون سراً مع مبعوثي السلاطين العثمانيين ويطالبوهم بتخليصهم من المماليك ، كما أصدر فقهاء الدولة العثمانية جواز حرب المماليك وضم مصر والشام والحجاز لمصلحة البلاد الإسلامية ولحمايتها من الخطر البرتغالي الداهم .

حشد السلطان سليم جيوشه وهاجم شمال سوريا .  وزحف السلطان المملوكي قانصوة الغوري على رأس جيش كبير من مصر والشام ، وإلتقى الجيشان بالقرب من حلب في مرج دابق .  فإنهزم الجيش المملوكي ، وقتل قانصوة الغوري ، وتذكر المصادر التاريخية المعاصرة أن السلطان سليم صلى عليه وأمر بدفنه بطريقة لائقة .  وهذه المصادر مثل " فتح نامة " لسلاحثور ، لم تعد تكتب في اللغة العربية ، وإنما باللغة التركية .

وتابع الجيش العثماني  مسيره إلى القدس  ، حيث بعث رسالة إلى القاهرة يطلب من المماليك أن يخضعوا للدولة العثمانية ، ولكنهم قاموا بقتل الرسل .  فتقدم السلطان سليم حيث إلتقى مع جيش مملوكي في غزة وهزمه .  ثم تقدم بإتجاه القاهرة ، حيث إلتقى بجيش مملوكي آخر وهزمه في معركة الريدانية [17] .  وبهذا إنتهت الدولة المملوكية بعد أن إستمرت قرنين ونصف.

وخلال سنوات قليلة كانت ليبيا وتونس والجزائر والعراق ومعظم الجزيرة العربية تتبع الدولة العثمانية. 

في طريق عودته ، إصطحب السلطان سليم الأول الخليفة العباسي المتوكل ، ويبدو للمتتبع أن الخليفة المتوكل عاش أكثر من قرن من الزمان ، فإسمه يستمر بالتردد من زمن برقوق إلى زمن قانصوة الغوري.  وتفسير ذلك وجود ثلاثة خلفاء حملوا هذا اللقب في هذه الفترة ، وهم المتوكل الأول ، وإعتلى سدة الخلافة مرتين ، ( 1362 – 1386) و ( 1389 – 1406 ) والمتوكل الثاني ( 1479- 1497) والمتوكل الثالث ( 1508 – 1517 ).  لقد حمل جميعهم هذا اللقب على الرغم من أن طالعه على أول من تلقب به، وهو الخليفة العباسي المتوكل ( 847- 861) لم يكن حسناً الذي حكم في سامراء ، فقد كان أول من تجرأ عليه قادته.

 

بلغار الفولجا

وصل البلغار إلى حوض الفولجا من الهضبة المنغولية، التي  كانت مصدراً لهجرات كثيرة سبقت هذه الهجرة، مثل الهون ، وأخرى تلتها مثل السلاجقة والعثمانيين ، فيما بعد. ويعتقد أن وصولهم كان في أواسط القرن السابع الميلادي.  وقد إستقر قسمٌ منهم في حوض الفولجا وحوض نهر الكاما ، وسُموا ببلغار الفولجا.  وتابع قسمٌ آخر منهم إلى شرق أوربا ، حيث إمتزجوا وتأثروا بالسلاف وأسسوا بلغاريا .

وكانوا عند وصولهم تحت قيادة زعيمهم المسمى كورتاج خان، وقد أسس البلغار عدد من المدن ، من بينها العاصمة بولغار، التي كانت مركزاً تجارياً هاماً ، يؤمه تجار الفايكنج وغيرهم من الشمال والمسلمين من الجنوب والروم من القسطنطينية في الجنوب الغربي والصين من الشرق.  وقد جلب التجار المسلمين معهم الدين الإسلامي ، الذي تقبله شعب البلغار وقيادتهم في القرن العاشر الميلادي.  وأصبحت دولة البلغار على إتصال بالعالم الإسلامي ، فأرسل أحد ملوكهم وفداً للخليفة العباسي المقتدر ( 908 – 932 ) يطلب منه إرسال فقيهاً لتعليم البلغار الدين الإسلامي ، وطلبات أخرى ، فأرسل الخليفة وفداً يضم عدة أشخاص بينهم الجغرافي إبن فضلان ، الذي ترك لنا كتاباً ، يعتبر من أهم المراجع التاريخية التي تغطي جزءاً مهماً من تاريخ البلغار ، وكذلك تاريخ الخزر ، الذين جاوروا البلغار وشكلوا ، في بعض الأوقات ، كياناً سياسياً موحداً .

وكان الملك في زمن رحلة إبن فضلان يحمل إسماً غير إسلامي " المش بن يلطوار " مما يدلل على أن الإسلام دخل إلى هذه البلاد حديثاً .  حيث إنتقل بواسطة تجار من آسيا الوسطى [18] .  وأثناء إقامة إبن فضلان في بلاد البلغار تسمى الملك بإسم جعفر، وهو إسم الخليفة .  ولكنه فضل أن يكون شعبه على المذهب الحنفي المتبع في آسيا الوسطى [19] .

أسس البلغار الكثير من المدن، مثل قازان وغيرها، وقد تكون قازان هي بولغار العاصمة،  كما أن الكثير من المدن الروسية المعاصرة كانت حصوناً بلغارية في الأصل.

وقد هاجمت جيوش جنكيز خان سنة 1223م بلغار الفولجا ، وقد تمكن عبد الله شلبير خان، ملك البلغار من إيقاع الهزيمة بالمغول، ولكنهم عادوا بعد ثلاثة عشر سنة، حيث كان البلغار منشقين على أنفسهم ويتحاربون فيما بينهم ، ومع هذا إستغرق إخضاع البلغار خمس سنوات .  وقد أصبح بلغار الفولجا فيما بعد جزءاً من القبيلة الذهبية. 

وفي العصر الحديث ، يعود معظم سكان جمهوريتي ترتارستان وشوفاشيا إلى أصول بلغارية.

 

نهاية القسطنطينية: القصة من الداخل 

يعتبر الكثير من المؤرخين أن نهاية الإمبراطورية البيزنطية لم تكن بسقوط القسطنطينية بيد العثمانيين ، وإنما كان سقوطها على يد الحملة الصليبية الرابعة قبل ذلك بقرنين ونصف .    

في العام 1449 تولى قنسطنطين الحكم بعد أخيه .  وكان من أم صربية وأب نصف إيطالي ، ولكنه ، ككل أباطرة بيزنطة وصف نفسه على أنه روماني .  وكانت سلطاته قد تقلصت بحيث لم تتعدى أسوار القسطنطينية، إضافة إلى بعض الجيوب المتفرقة في البلقان والأناضول، وحتى داخل الأسوار كانت هناك أحياء مهدمة ، ولم يكن جميع سكان المدينة يقبلون بقيادته بسبب تحوله عن مذهب آبائهم .  لقد كان للقسطنطينية أميرال ، ولكن لم يكن هناك أسطول ، كما كان هناك رئيس أركان مع عدد قليل من الجنود .  وقد إحتاج البيزنطيون إلى موافقة مراد قبل تعيين الإمبراطور .  وكان يكبر خصمه محمد الفاتح بسبعة وعشرين سنة .

بدأ قسطنطين إستعداداته لمواجهة الحصار مثل ما بدأ محمد الإستعداد للحصار نفسه .  فأرسل موفددين لشراء مواد غذائية ، كما باشر بعملية صيانة للأسوار والأبراج والبوابات .  وعلى الرغم من موقفهم السلبي من الإمبراطور فقد إنخرطت جماهير المدينة في أعمال الصيانة والتحصين ، ثم قاموا بجمع تبرعات لشراء الغذاء ، كما جمعوا الأسلحة الموجودة في المدينة وأعادوا توزيعها على القادرين على حمل السلاح .  ويبدو أن هذا شجع الإمبراطور على إرسال حاميات إلى الجيوب المتبقية بيد البيزنطيين ، كما تشجع الإمبراطور وأرسل سفناً هاجمت القرى الساحلية على الساحل الشمالي لبحر مرمرة ، وأخذوا أسرى وباعوهم كعبيد في أسواق القسطنطينية ، فأغضب ذلك الأتراك [20] .

ثم وصل عدد من المتطوعين ، فقد وصل جيوفاني جيستنياني ، وهو قائد عسكري محترف ، ينتمي إلى عائلة جنوية ثرية ، وأحضر معه سبعمائة مقاتل وأسلحة كثيرة .  ووصل متطوعون من البندقية، كما طلب البنادقة من مواطنيهم المقيمين في القسطنطينية أن يشاركوا في الدفاع عن المدينة.  ووصل سرية من المقاتلين الكتلان ومجموعة من المتطوعين القشتاليين والأرغونيين.  وأرسل الفرنسيون ثلاثة آلاف مقاتل كما كان هناك متطوعين من كريت وطرابزون واليونان وغيرهم .  وكان الجيش البيزنطي يعد أربعة آلاف جندي ، بالإضافة إلى ألفي متطوع [21] .  وكان كذلك أورخان وأتباعه من الأتراك .

وقرر محمد البدء بالحصار في الربيع سنة 1453، فبدأ على الفور ببناء السفن وصنع مدافع وأسلحة مختلفة، ودرس تحصينات المدينة جيداً وأعد خطة مفصلة للحصار.  وبعث للإمبراطور يعرض عليه تسليم المدينة صلحاً، ولكنه رفض .  وفي نيسان من العام 1453 قام السلطان بحشد جيش قوامه سبعين ألف مقاتل وعدد كبير من السفن والمدافع وأدوات الحصار، وكان من ضمنها مدفع ضخم .

وبعد خمسين يوم من الحصار والقصف المدفعي ، بدأ الجيش العثماني بالهجوم . وقد أحدث القصف الكثير من الدمار في أسوار المدينة وأبراجها ، وكان أكبر الأضرار في الزاوية الشمالية الغربية بالقرب من بوابة رومانوس حيث تم إسقاط برجين والجدار الواقع بينهما وقد تسبب ذلك في ردم الخندق .  ثم بدأ الهجوم بعد منتصف الليل بقليل على عدة محاور ، ولكن الهجوم الرئيسي تم تركيزه على الثغرة التي إحداثها بالقرب من بوابة رومانوس ، حيث كان جيستينياني وقنسطنطين الحادي عشر يشرفون على الأعمال الدفاعية .    

  وكان المدافعون يسارعون إلى إغلاق الثغرات التي تحدثها المدفعية بمواد مختلفة ؛ صخور وأخشاب وغيرها.  وجرح جستنياني أثناء الهجوم ، فتم إخلاءه إلى سفينته الراسية في القرن الذهبي. 

وبعد عدة محاولات قامت بها عدة قطعات عسكرية إنهارت مقاومة المدافعين،  وتمكنت وحدة من الإنكشاريين من دخول المدينة ورفع العلم العثماني على السور، حيث تم فتح البوابات من الداخل ليدخل مزيد من الجنود.  وإنتشر الهلع في المدينة.

وصل خبر إنهيار الجبهة لجستنياني في الميناء ، فأمر بإطلاق الأبواق بإشارة تأمر جنوده بالعودة إلى السفن، ثم إنسحبوا بإتجاه بلادهم.  وما تمكن من فعله الجنويون لم يتمكن منه الآخرون، فقد فوجئ البنادقة، الذين كانوا يحرسون أسوار بحر مرمرة بإنهيار الجبهة، وهوجموا من الخلف، من داخل المدينة، وقتل بعضهم وأُسر البعض الآخر.

وتمكن العثمانيون من نقل بعض القطع البحرية إلى القرن الذهبي بدفعها على اليابسة من خليج البسفور.  وكان ظهور سفن عثمانية في أعلى القرن الذهبي مصدراً للرعب للمدافعين.  وفي وقت لاحق تمكن هذا الأسطول من فتح بعض البوابات وتسلق الأسوار وإدخال وحدات عسكرية إلى داخل المدينة.  كما إقتربت سفن الأسطول العثماني المرابط في بحر مرمرة من الشاطئ ونصبت السلالم وصعد الجنود عليها ودخلوا المدينة [22] .  

وهنا يذكر المؤرخون الغربيون على أن الجيش العثماني صدم لعدم وجود جيش في المدينة ، التي صمدت 47 يوماً ، فحسب روايتهم إقتصر المدافعون عن المدينة على بضعة آلاف مقاتل.  بينما تذكر بعض المصادر التركية أن الجيش المدافع كان أكبر من الجيش المهاجم.  ويبدو أن كلا الروايتين لم يكن دقيقاً، فلم تكن بيزنطة تقدر أن تحشد جيش يزيد عدده عن عدد سكان المدينة في ظل خذلان أوربا لها.  كما أنها لا يمكن أن تحشد جيشاً يكون عدده أقل من عشرين إلى ثلاثين ألف ، في ظل الإحساس بالتهديد والإبادة الذي كان سائداً، هذا إضافةً للمتطوعين من مختلف البقاع الأوربية.

يبدو التباين واضحاً في روايات المؤرخين عن معاملة الجيش العثماني لسكان المدينة.  فالمؤرخين البيزنطيين ، الذين ألفوا كتبهم في عواصم أوربية بعد أن هاجروا إليها كانوا يهدفون إلى إثارة العالم المسيحي ضد الأتراك والمسلمين عموماً.  فجاءت كتبهم مليئة بالمبالغات.  ومن الصعب كذلك أن  نرى الجيش العثماني ، الذي حاصر المدينة لمدة 47 يوم ، ملتزماً تماماً فمنطق العصر وقوانينه كانت تفرض على القائد مكافئة جنوده بالسماح لهم بالنهب والسلب والسبي .  وكان هذا أقبح صفحات التاريخ البشري في تلك العصور.  وكان هذا أيضاً يقف وراء نقض كثير من القادة لتعهداتهم ، مثل ما فعل تيمور لنك بدمشق ، أو الملوك الإسبان في المدن الأندلسية المختلفة .

ولكن المبالغات كانت واضحة ؛ مثل مهاجمة الإنكشاريين لكنيسة آيا صوفيا ،  بينما يذكر المؤرخون أن محمد الثاني كلف قوة من الشرطة حماية بعض المباني ومن بينها آيا صوفيا.  والوصف الذي يعطيه المؤرخون لعملية إقتحام الكنيسة وإعتدائهم على المصلين الذين كانوا يتضرعون إلى الله أن يحمي مدينتهم ، وأن ينزل ملاكاً يردهم قبل أن يصلوا إلى عمود قسطنطين ، حسب نبوءة قديمة تداولها البيزنطيون جيلاً بعد جيل .  وتنتهي قصة إقتحام كنيسة آيا صوفيا بحدوث معجزة، حيث يختفي رجال الدين في الجدار بعد أن أخذوا معهم الكتب والآثار المقدسة.

ويذكر المؤرخون الأوربيون أن بعض الأحياء والقرى ، حيث كان يوجد ضمن القسطنطينية قرى مسورة ، فاوض قادتها على تسليم قراهم سلمياً ، فلم تُمس .  كما يذكرون أن الكثير من الكنائس لم يدخلها أحد ، بينما ترد روايات عن حمل الراهبات إلى السفن وإغتصابهن .  إن إغتصاب راهبات من قبل جنود مسلمين، شكل نمطاً نموذجياً للدعاية المضادة للإسلام في أوربا، التي كان من الممكن أن تكون شعوب حوض المتوسط أكثر وئاماً بدونها.

أما الإمبراطور فقد مات مدافعاً عن مدينته دون أن يُعرف، ودون أن يترك مجالاً لإتهامه بالتقصير.  ثم دخل محمد الفاتح المدينة وأمر بإيقاف النهب في نهاية اليوم الأول وباشر بإستلام المدينة التي أصبحت تعرف بإستانبول، عاصمة الدولة العثمانية، كما بقيت مقراً للبطريركية الأرثودكسية.  

 




[1]  تاريخ المماليك في مصر وبلاد الشام ، قطوش.

[2]  تاريخ المماليك في مصر وبلاد الشام.

[3]  بغداد، خلفاؤها ةلاتها وملوكها.

[4]  تاريخ المماليك في مصر وبلاد الشام.

[5]  تاريخ دولة المماليك في مصر، السير وليم موير .

[6]  تاريخ المماليك في مصر وبلاد الشام ، طقوش.

[7]  طقوش عن إبن تغري بردي.

[8]  طقوش عن صالح بن يحيى.

[9]  طقوش عن المقريزي.

[10]  طقوش عن إبن إياس.

[11]  طقوش عن إبن إياس.

[12] طقوش عن إبن إياس.

[13]  تاريخ دولة المماليك في مصر، السير وليم موير.

[14]  الدولة العثمانية ، د علي الصلابي .

[15]  تاريخ الدولة العثمانية ، د. علي حسون .

[16]  تاريخ الدولة العثمانية ، د. علي حسون .

[17]  الدولة العثمانية ، د. علي الصلابي .

[18]  العرب في الإتحاد السوفييتي، نجدة فتحي صفوة .

[19]  العرب في الإتحاد السوفيتي ، نجدة فتحي صفوة.

[20] The Holy War For Constantinople, Roger Crowley.

[21] The Byzantine Empire, C. Oman.

[22] Holy War for Constentinople, Crowley.


 
 

 


تعليقات

لا يوجد تعليقات

الإسم 
البريد الإليكتروني (ليس للنشر)
التعليق
هل توافق على الانضمام لمجموعتنا البريدية؟
  أرسل

 

Counter